من أجمل السنوات التي عملت فيها، كانت تلك التي قضيتها في تسويق الإعلان في المطبوعات المتفوقة آنذاك؛ حيث كونت خلالها الكثير من العلاقات مع الشركات الكبرى والشخصيات التجارية في السوق المحلي والخارجي في مجالات الإعلان الستة المتعارف عليها، ورافقت خلال تلك السنوات العشر فريقا رائعا من الزملاء المحترفين، حققنا سويا الكثير من النجاحات ولا زلت حتى اليوم أفتخر بهم وبها. ذلك عندما كان الإعلان المطبوع في الصحف اليومية والمجلات الاسبوعية والشهرية، هو سيد الموقف في التعريف بالمنتجات الاستهلاكية والمعمرة والترويج للسلع والخدمات. وكانت ولا زالت الضوابط التي تحكم هذه المهنة واضحة منها المكتوب رسميا، ومنها ما هو متعارف عليه ومنها حتى ما هو مرتبط بالذوق العام ومن أمثلة ذلك ألا تتجاوز نسبة الاعلان التجاري في المطبوعة حدا معينا ( 40٪ مقارنة بالتحرير ) كما أن هناك أمورا ( حقوقية ) لا يمكن نشر الإعلان عنها دون مستندات معتمدة، ومن ذلك أيضا لا يجوز مهنيا نشر إعلانين متنافسين متجاورين، أو في صفحة واحدة مثل ( إعلان البيبسي والكوكاكولا ) حيث قد يكون بين الشركتين ( ما صنع الحداد ) أو قد يشتت العميل في اختياره . كما أن الإعلان التحريري يلزم كتابته في الصفحة ( مؤطرا ) وبخط يختلف في مقاسه عن بنط المادة التحريرية في الصفحة موضحا أنه إعلان مدفوع. وعرفت خلال عملي في الإعلان ( وقد جئت من مجال الطيران ) أن في بعض الدول تتلقى منظمات مدنية وحكومية شكاوى عامة الناس، فيما لو كان الإعلان غير مقبول أومستفزا، أو حتى هابط في التصميم أو اللغة أو لا يرقى إلى الذوق العام. ولقد كان المعلن يبحث عن الوسيلة الإعلانية من حيث قرائها ومواصفاتهم العلمية والمادية والعمرية وانتشارها، بناء على دراسات من شركات محايدة إلى حد ما. ولا غرابة في هذا، فإن لكل مهنة ضوابط وأخلاقا متعارفا عليها ،يلتزم بها أهلها ويجيدونها قبل أن يرخص لهم بمزاولتها ولا فرق بين الطب والإعلان في هذا، فالواجب هو احترام من نتعامل معه حتى تستقيم الحياة وتستمر التعاملات في جو من الثقة المتبادلة. ومع انفراط الثورة التقنية وفِي وسط هذا التسونامي من التطبيقات في وسائل التواصل الاجتماعي، التي اختلط فيها الحابل بالنابل وتدفقت علينا هذه المتغيرات القوية من كل حدب وصوب حتى أصبح كل منا يتحرك، وفِي جيبه دار نشر كاملة مؤثرة معبرة بالصوت والصورة في ذات الوقت ( real time ) فما يحدث أمامك الآن يمكن أن يراه ويسمعه من يقيم في النصف الآخر من الكرة الارضيّة؛ سواء في القطب أو خلف خط الاستواء. الأمر الذي قلب موازين الإعلان التجاري في العالم فاختفت بعض الصحف الورقية، وأضاف بعضها مواقع إليكترونية لمجاراة التطور في الصحافة والإعلام وفِي سلوك القرّاء. ولهذا كوّن كثير من النشطاء في العالم أعدادا هائلة من المتابعين؛ بسبب الدهشة والرغبة في الانغماس في هذه المؤثرات الجديدة، وظهر نوع جديد من المشاهير وهم غالبا شباب تنقص أكثرهم التجربة ويغلب عليهم السطحية، استهوتهم هذه العاصفة التقنية وأدركوا بسرعة أثرها وتأثيرها واندفعوا من خلالها في موجة من الانطلاق السريع والمتسرع، الذي تنقصه الضوابط والقيم ويتميّز بعضهم بإجادتهم لما يلفت الانتباه في الحركة أو الكلام مثلا وزاد الطين بلة أن سرعة الانفجار التقني أسرع بكثير من وتيرة الجهات الرسمية التي تسن القوانين وتضع الضوابط. وكان من الطبيعي أن يسبق هؤلاء المشاهير المؤثرون ( السليبرتيز ) – كما يحلو لمتابعيهم تسميتهم- أن يسبقوا الأجهزة الرسمية في كثير من الدول التي حاولت جهدها وضع القوانين العامة وخاصة ما يعرف بقانون جرائم النشر الإلكتروني التي لا تكفي لحفظ الحقوق والأعراض، أو مراعاة الذوق العام. وفِي غياب الضوابط في كثير من الدول أصبح من السهل الترويج والتغطية المصورة لأي منتج أو خدمة لمجرد كونه يملك عددا كبيرا من المتابعين، الذين يمكن جمعهم بطرائق عدة تخرج هذا الحشد عن المصداقية وقليل منهم من يشير أن هذا إعلان مدفوع القيمة أو أن يكون حريصا في اختيار المنتج الذي يقتنع بسلامته. وكثيرا ما ألاحظ مديحا وتطبيلا في هذه ( السوشيال ميديا ) في أمور تجارية مدفوعة دون أن يدرك المتلقي في أغلب الأحيان أنها مديح وتطبيل مدفوع من مطعم، أو عطر أو أزياء لمن يقوم بالإعلان من حسابه، ويقع بسببه الكثير من المنبهرين من المتابعين في تضليل يأتي في مصلحة من يقوم بدور المعلن في ثوب الناصح، أو من يريد أن ينقل تجربته الشخصية لمعجبيه من المتابعين. الأمر الذي يجعلك تتساءل.. أين الضوابط، وأين القيم ؟ ويقول كال نيوبورت ، برفسور علم الحاسب من جامعة جورج تاون في محاضرته بعنوان ( لماذا عليك الخروج من شبكات التواصل ؟ ) التي نظمتها موسسة TED x : إن وسائل التواصل الاجتماعي هي ليست تقنية أساسية بقدر ما هي تطبيقات تستفيد من بعض التقنيات الأساسية، وأدق وصف لها أنها ( منتج ترفيهي ) تقدمه الشركات مقابل الحصول على بياناتك التي تبيعها بدورها، ومقابل انتباهك الذي تسعى أن يصل بك إلى حد الإدمان لزيادة أرباحها بفعل ما يقوم به لديها مهندسو الانتباه attention engineers وهو نفس ما تسعى إليه مؤسسات القمار لهذا يمكن تسميتها منتجات ترفيهية ولكن ( بغيضة وتافهة ) على حد قول كال. وفِي ذات المحاضرة يؤكد كال، أن الجيل الجديد هو الأكثر انغماسا، وهو بهذا عرضة لأن يخسر تركيزه وأن تتسرب إليه الوحدة والعزلة والاكتئاب ناهيك أن الإدمان الذي تحرص عليه شركات وسائل التواصل من شأنه أن يسبب عدم التطابق بين الطريقة التي تعمل بها عقولنا، وهذا السلوك الجديد الذي من شأنه تشتيت الذهن وتشظية الانتباه ومن أهم مؤلفات البرفسور كال نيوبورت كتابه بعنوان" العمل بعمق deep work والذي يعتبر شرحا علميا لشخصية تنافسية وخطة عمل ناجحة، لمن أراد التركيز في عمله وحياته عامة خارج سيطرة وسائل التواصل.