مازلت أذكر ذلك اليوم الذي اصطحبتني والدتي حفظها الله وانا في سن الطفولة الى سوق العلوي لكي تشتري بعض الأغراض من شلبي العطار . كنت وقتها في الحادية عشر من عمري تقريباً وكنت متضجراً من المشي تحت اشعة الشمس الحارقة. ولذلك كنت اسألها بعد كل دقيقتين او ثلاث ( أمي هل وصلنا؟ متى رح نرجع البيت؟) بالإضافة الى بعض الجمل الشهيرة مثل "أنا تعبت" و "أنا عطشان" وكانت هي بطبيعتها الحنونة تخبرني بأننا قربنا من المحل وسوف نشتري بعض الأغراض ونعود فوراً الى البيت. وفي طريقنا الى المحل المقصود اخذت والدتي في سلك مساراً اخر غير المسار المعروف الى محل العطارة , فدخلت أحد ازقة حارة المظلوم المتفرغة من سوق العلوي والذي يتميز بطلعه صغيره تُفضي الى برحه صغيره خلف مسجد المغربي محاطه ببعض البيوت , وهناك وقفت حفظها الله أمام احد البيوت تنظر الى ذلك البيت بشغف وعيناها يملئهوما الحنين والدموع الى ماض ولى وفات , مليئ بالحب والذكريات لأناس قد فارقوا الحياه. وقتها نسيت التعب و اشعة الشمس واخذت انظر اليها بأستمعان , فوجدتها تنظر الى ذلك البيت بكل تفاصيله , الى الرواشين و الغرف والدهليز بل اخذت تناظر البرحه وبعض البيوت المجاوره. فسألتها وقتها الى ماذا تنظرين يا أمي؟ نظرت الي وقالت لي هذا بيت جدك. الشيخ عبدالعزيز عبدالله فالح وهنا عشت احلى ايام عمري مع امي , ابي , اخوتي وجيراني. في هذا البيت ياولدي نشأت و تربيت وعشت جزء من ذكرياتي, ذكريات الطفوله واللعب مع جيراني بنات العم حسن المنصوري و بنات العم عمر عبدالجبار و بنات المتبولي. وهذي الغُرف شاهده على افراحي و احزاني , وهذا السطوح شاهد على منامي و احلامي , وفيه سار زواجي على أبوك. أحسست وقتها بأن الحنين الى الماضي ومعايشة تلك الذكريات فيه راحة للمرء وخصوصاً اذا كان لذلك الزمن بعض الشواهد المتبقيه اللتي كانت تشكل دوراً مهماً في حياة الشخص مثل بيت العائلة القديم , الأزقه و غيرها. وبعد أن اكملت حفظها الله اخذت تريني بعض المعالم المميزه بالنسبه لها مثل موقع قهوة الطلعه اللتي كان دائماً يرتادها جدي رحمه الله و محل عم عبده الذي كان يبيع القته باللبن. وبعد أن عدنا الى البيت أخذت افكر في كلام والدتي واتذكر ردة فعلها عندما رأيت بيتهم القديم وتذكرت عندما أخبرتني بأنها عاشت جزءاً من طفولتها في ذلك البيت , فعدت اليها وسألتها عن باقي طفولتها ولماذا عاشت جزءاً من طفولتها في ذلك البيت. فأخبرتني حفظها الله بأن الجزء الآخر من طفولتها المبكره عاشته في بيت الجمجوم في حارة المظلوم بعد أن انتقلوا الى العيش به حيث كانت عائلة آل فالح من أثرياء مدينة جدة ولهم باع طويل في تجارة الحبوب (البقوليات) و الأرزاق وعدد من البيوت في حارة اليمن بالقرب من سوق النوريه ولكن ارادة الله أن يخسر جدي الشيخ عبدالله فالح تجارته و امواله بعد غرق أحدى السفن المقلة لعدد كبير من بضائعه ما حدا به ان يعمل نجاراً ليوفر لقمة العيش له ولعائلته. وتواصل حفظها الله وتقول كان والدي رحمه الله يستأجر لنا شقه في بيت العم عمر جمجوم خلف مسجد المعمار وكان يعمل نجاراً بالزنبيل أي أنه كان يلفلف الحواري و الأزقه للبحث عن رزقه ثم عمل في مدارس السبع قصور وافتتح ورشه نجارة له بالقرب منها ومن البحر ثم عمل مدرساً في المعهد الصناعي وكان يعلم الطلبه اصول النجاره. ثم تحسن وضعه المالي حتى أشترى البيت الآخر المجاور لبيت المنصوري الواقع خلف مسجد المغربي وعدد من البيوت الأخرى. أما عن ذكرياتها في بيت الجمجوم , فتقول كنا نجتمع يومياً بعد صلاة العصر مع اصدقاء ذكريات تلك المرحله وهم بنات العم عمر جمجوم و بنات العم سرور جمجوم و بنات العم بكر باعامر وبنات العم سعيد باعامر وبنات العم عبدالوهاب بخش وبنات عبيد. وكان موقع تجمعنا هوا هوا الدكه الشهيره امام بيت الجمجوم والتي يسميها البعض (دكة الشناقطه) حيث كنا نلعب بعض الألعاب مثل البربر , فتحي ياورده , نط الحبل وغيرها. ومما تتذكره ايضاً حفظها الله منظر الحجاج المورتانيين (المعروفين بالشناقطه) حيث كان بيت الجمجوم مقراً لهم فكانوا يفترشون ذلك الدهليز الكبير وينامون به , وفي نهار رمضان كانوا يقومون بتعليق اللحم في الدهليز حتى ينشف لكي لايخرب او يفسد. ايضا تذكر أن أحد ابناء الجيران واسمه عبدالرزاق السقاف قد توفي بعد أن غرق في صهاريج أحد البيوت المجاورة اثناء محاولته لجلب كرة القدم التي كان يلعب بها مع اصدقاء الحارة بعد ان سقطت في صهريج ذلك البيت. تلك هي بعض الذكريات التي تعتبر نبش للماضي لمعايشته في الحاضر سواءً كان سعيداً أو حزيناً , ويعد المكان الذي شهدته الذكريات احد الشواهد المرسومة في الذاكرة ومن الصعب نسيانه خصوصاً وان ذكريات هذه المقالة حدثت في جدة التاريخية في أحدى الحواري العريقة وهي حارة المظلوم. حفظ الله والدتي واطال في عمرها و رحم الله جدي واسكنه فسيح جناته.