تمثل البيوت البلدية في جدة القديمة فناً معمارياً وهندسياً متميزاً , وهي تندرج ضمن النمط المعماري السائد في منطقة الحجاز , والذي يتسم بالقوة والمتانة والصلابة , ويتخذ شكلاً يدل على الهيبة والشموخ والصمود , و بذلك تعبر عن قوة الشخصية والهيبة والروح العالية لأهالي جدة العظماء الذين قاموا ببنائها. والناظر إلى هذه البيوت يرى واقع تراثنا الأصيل المتوزع في حواريها الأربعة العتيقة , ويرى أيضاً مشهداً يدل على العزة والكرامة والإباء ويستثير في النفس مكامن الشوق لتلك الأيام الجميلة عندما كانت هذه البيوت تصخب بالحياة ويجيش في النفس ذكرى تاريخ الآباء والأجداد. لن يشتاق لعبق تاريخها ويقدر أصالتها إلا من عاش بين أكنافها وتقلب بين حناياها ومشى بين أزقتها واستند على جدرانها وتظلل تحت ظلها وشم رائحة رواشينها وقضى أيام طفولته في جنباتها , فهي بيوت قوية واسعة لسعة صدور أهلها , تجتمع فيها الأسرة والأسرتان وربما الثلاث مع أمتعتهم وأنعامهم فلا ضاقت عليهم بيوتهم وما ضاقت بهم أنفسهم , فهي بيوت تعانق بعضها البعض وسقف بسقف وجدار بجدار , بيوت دافئة بألوانها الجميلة , تزداد في وقت الربيع بهاء , وتلتحف الضباب شتاء , وفي العيد تبدو مثل الغادة الحسناء التي يعجز القلم عن وصف ماضي عبيرها وعبق أريجها , فهو الفرق الواضح بين حياة الماضي ببهائه وبساطته وتماسكه وشموخه وبين حياة الحاضر ببهرجته وتعقيده. بيوت جدة القديمة ذلك التراث الأصيل بحجارته البحرية الموغلة في أعماق التاريخ , الصامد في وجه الزمن وتحدياته وعثراته رغم ابتعاد أهلها ونسيانهم لها , تقف هذه البيوت شامخة بكل فخر و اعتزاز فقد شيدها ذلك الجيل العتيد , فتقف هذه البيوت القديمة بأعمارها الطويلة وأزمنتها المديدة والتي يبلغ عم ر بعضها أكثر من ثلاثة قرون من الزمان شامخة صامدة تماما مثل رجالها القدماء في الشدة والصلابة. لم تكن بيوت جدة القديمة عبارة عن بيوتات متراصة للسكن فقط , بل كانت وما زالت تنبئ عن براعة البنائين الذين أشادوها وأقاموها منذ مئات السنين بمواصفات عبقرية رغم انحسار موارد البناء وندرة وجودها , بالإضافة إلى محدودية أدوات البناء ومع ذلك نجد أن تصميم البيت الجداوي القديم بما يحمله من رواشين وأحجار منقبية متراصة بمهارة ونقوض متميزة يوحي لك أنك أمام لوحة فنية متكاملة , ولو قارنت تصميم البيوت القديمة في المملكة أو الجزيرة العربية لبرز لك البيت الحجازي من بين كل المباني التي شُيدت في تلك المرحلة. بيوت جدة القديمة هي الأثر الوحيد المتبقي والممتد منذ زمن الآباء والأجداد إلى عصرنا الحاضر , فتحمل لنا رائحة ذلك الزمن الجميل بكل ذكرياته و تاريخ أهله. فلنحافظ على القلة القليلة المتبقية منها لأنها تعتبر بيوتاً فريدة من نوعها على مستوى العالم. بالإضافة أنها شاهدة على الكثير من الأحداث التاريخية وعلى حجاج و زوار بيت الله. [email protected]