حينما يحل موسم الخريف وتبدأ الريح بذر سهامها الباردة سرعان ما تتنكر بعض الأشجار لأوراقها ، تساقطها ورقة ورقة ، مع أن الورقة جزء منها ! لكن ما إن يتعلق الأمر بالصقيع ، فالخيارات محددة .. إما الإبقاء على الأوراق والتعرض بشدة للبرد ، أو التخلي عن الأوراق والدفء ، ولأن الخيار الثاني هو الألطف فهو الحتمي بالنسبة لهذا النوع من الأشجار ، ولكي يتم الأمر فلابد من خديعة حيوية كبرى ، خديعة تجعل من الورقة ضعيفة وهشة وسهلة السقوط إذا أتى الوقت المناسب ، فما هي تلك الخديعة ؟ الشجرة ليس لها جهاز متخصص للتخلص من نواتج العمليات الحيوية ( أي أنها ليست مضطرة للذهاب لدورات المياه كالبشر ) لذلك فهي ترسل تلك السموم إلي الورقة ، ما يؤدي إلي إضعافها مع مرور الوقت ، وكأن لسان حال الشجرة هنا يقول : ما دام أننا قد حسمنا مصير تلك الأوراق فلنعمل على أن نجعلها جديرة بالموت والفناء ، وهكذا مع تراكم السموم والنفايات الحيوية تصبح الأوراق فجأة بذلك اللون القبيح الذي ينبئ بأنها وصلت لأشد مراحل الوهن ، هنا يصبح سقوطها في مهب الريح أمراً مبرراً. المؤلم أن الأوراق في الشجرة تعد الفئة الأكثر عملاً وجهداً حتى إلي ما قبل تلك اللحظة المأساوية ؛ فهي ليست المسؤولة فقط عن تغذية الشجرة وتهويتها وحسب ، بل وتبذل جهداً عظيماً في استمالة الحياة من جوف الهواء وعيون الشمس ، وتبذل جهداًعظيماً في مقاوم حرارة الصيف وجفافه ، وتبذل قصارى طاقتها لجعل اتجاه الغصن بعيداً عن الظل ، ناهيكم عن دورها في إرساء قيم وجماليات الشجرة في نفوس بقية المخلوقات ، فالبشر يحبون الشجرة لأوراقها ؛ فإن رأوها بلا أوراق أحرقوها في مدافئهم وأفرانهم ، والحيوانات كذلك تحب الشجرة لأوراقها ، فإن رأتها بلا أوراق هجرتها ، حتى الحشرات لا ترى في الشجرة ما يستحق الإعجاب إن كانت عارية بلا أوراق ، فضلاً عن أن بعض الأوراق تتطوع لأن تكون أزهاراً تبعث على الجمال في محيطها ، ثم ثماراً مغرية لبقية الخلق ، بالطبع تغريهم ليس حباً فيهم ! إنما إخلاصاً للشجرة التي تعيش عليها ، فالثمرة تخفي داخل أحشائها البذرة ، وما من سبيل لتحفظ الشجرة نوعها إلا بإرسال بذرتها بعيداً عنها ، وهو ما تضطلع به الثمرة ، فتسخر كل طاقتها لأن تكون لذيذة وذات رائحة زكية ، حينها لا يبقى لأي مخلوق من عذر في عدم الإقدام على قطفها والتمتع بطعمها ، كل ذلك من أجل أن تتحرر البذرة فتعيد ذكرى أصلها في مكان آخر ، هكذا هو شأن الأوراق قبل أن تجد نفسها فجأة ثمناً لتبدل الظروف ، لكن للإنصاف .. ليست كل الأشجار بهذا الجفاء ، فهناك من لن تتنازل أبداً عن أوراقها مهما عصفت بها قسوة الحياة ، فإما أن تعيش بأوراقها أو تموت معها . هل تأملتم النخلة في الخريف؟. @ad_alshihri [email protected]