قدّم الأستاذ الناقد على الشدوي خلال الحلقة النقدية التي نظمها نادي جدة الأدبي ورقة نقدية بعنوان (الشجرة والموجه ) قال فيها:" حين حلل المؤرخون الثقافة على الصعيد العالمي أو على صعيد واسع استخدموا استعارتين معرفيتين أساسيتين هما : الشجرة والموجة. فقد استخدمت الشجرة أداة لفقه اللغة المقارن ، واستخدمت الموجة لتفسير علاقات معينة بين اللغات ، واستخدمتا معا استعارتين لوصف نشوء الرواية الحديثة في الثقافات التي تنتمي إلى هامش ما يسمى الآن بالنظام الأدبي العالمي . والخلاصة من هذا كله هو : أن الشجرة والموجة استعارتان مفيدتان لمقاربة التاريخ الثقافي والاجتماعي ؛ فهو مكون من أشجار وأمواج سوف أستعير هاتين الاستعارتين على نطاق ضيق ؛ لأقارب بهما الوضع الثقافي في قضاء الظفير في القرن الرابع عشر للهجرة (منطقة الباحة الآن). الشجرة لأصف بها الوضع الثقافي آنذاك ، والموجة لأصف بها ما تعرضت له ثقافة القضاء ابتداء من نهاية الربع الأول من ذلك القرن . الشجرة لأشير بها إلى الوحدة من خلال التنوع؛ أي شجرة واحدة بأفرع متعددة ، وعلى عكس الشجرة سأشير بالموجة إلى قسر الوحدة على التنوع . الكتاب الذي اشتغلت عليه هنا هو كتاب " الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والخرافات الوثنية المنتشرة في قضاء الظفير" للشيخ عبد الله بن سعدي رحمه الله ( 1954 ) الذي لفت النظر إلى أن قرونا طويلة مرت على قضاء الظفير تكوّن خلالها فكر ، وتحصلت فيها ثقافة. تكمن الأهمية الثقافية لهذا الكتاب في إحالته الضمنية إلى انقسام داخلي في قضاء الظفير سنعرضه فيما بعد ، حينما نكون بصدد الحديث عن الشجرة والموجة . يكفي أن أقول هنا إنه عرض خلاصة تركيبية للثقافة في قضاء الظفير إلى نهاية الربع الأول من القرن الرابع عشر للهجرة ، وتكفل بضبط عناصرها المكونة ، وبتحديد المواقف الذهنية التي تضمرها. من هنا فتحليل الكتاب بوصفه وثيقة ثقافية يسمح لنا بالاقتراب أكثر من الواقع الثقافي الاجتماعي الذي تكون إلى تلك الفترة ، ويقدم لنا فرضية عمل متعلقة بعلاقة الخطاب بالإنسان الذي يتغذى منه . لذلك لم يكن كتاب بن سعدي مجرد بيان فيما اعتبره خرافات وأساطير ، بل يشير إلى حالة تاريخية مر بها قضاء الظفير قُسرت فيها ثقافته . لقد أوردت حكاية تدوين الكتاب كاملة لأهميتها الاستثنائية ؛ فهي تسلسل الأحداث التي دفعت بالمؤلف إلى تدوين كتابه. بشكل عام ، يدون الكتاب ممارسات الناس وأقوالهم وأفعالهم من غير أي منهجية صارمة . فالكتاب غير مقسم إلى أبواب أو فصول أو موضوعات . أشبه بتداع حر يسجل فيه أي شيء يرد على باله من غير أي تحفظ أو نظام ،أو سيطرة على التفكير أو التحليل أو حجب الأفكار . ترتب على هذا أن تلاشت من الكتاب الاعتبارات المنطقية والجمالية ، وركز على تسجيل ما ورد في خاطره . غير أن ما اعتبرته تلاشيا للاعتبارات المنهجية كان ناجحا حينما تضمن الكتاب أفعالا وممارسات وأقوالا بغض النظر عن أهميتها أو قيمتها أو تنظيمها أو تسلسلها المنطقي . فقد جعل التداعي الحر الشيخَ عبدالله بن سعدي لا يخجل من تسجيل ممارسات الناس وأفعالهم في تلك المرحلة التاريخية . التداعي الحر هو الذي خفف القلق من ذكر تلك الممارسات والأفعال ؛ فالأعراف الاجتماعية تعلم الصمت تجاه بعض الممارسات . من الصعب الاعتراف في إطار أعراف اجتماعية بالتجسس على ما يدور في الليلة الأولى بين زوجين ، أو تقبيل الرجال خدود النساء. إن البعض منا يجد صعوبة حتى من التعبير عن أفكاره اللطيفة. فيما لو عدلت منظور القراءة سأقف على دلالات غنية بقدر ما هي مفاجئة ؛ فحتى تلك المرحلة التاريخية ما تزال الشفافية رائجة ،والأفعال لا تبحث عن سرية ،والأقوال تقال من غير أي تحفظ ، والممارسات ظاهرة وعلنية وليست مخفية ، والناس يتعاملون بتسامح . إيماءات وإشارات مباشرة ، ولغة لا خجل منها . باختصار أعراف رخوة إذا ما قورنت بما حدث من صرامة فيما بعد. وفيما لو عدلت المنظور مرة أخرى يبدو تسجيل تلك الممارسات والأقوال والأفعال من باب ما يجب العمل على زواله ، وكأن لا شيء منها يجب أن يمارس ، أو يقال، وبالتالي يتم إظهارها من أجل إنكارها. إن أفضل فهم للمرجعية التي ترفض تلك الممارسات يتم من خلال ما ينكره الشيخ بن سعدي، وهي مرجعية لا يتحدث عنها إلا في عبارات نادرة تشير إلى نصيتها كالالتزام بالكتاب والسنة ، أو ارتباطها بالسلطة كسلطة ولي عهد المسلمين وولي الأمر ومشايخ العلم والمؤسسات التي تقوم بتبني فكرها ونشره ، أو إلى طبيعة إدارة الحياة التي تنتهجها السلطة كالحكم بالشرع. وعلق الدكتور سعيد السريحي بقوله حين أوقفتني ورقة الصديق على الشدوي "الشجرة والموجة" على كتاب " الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والخرافات الوثنية المنتشرة في قضاء الظفير " للشيخ عبد الله بن سعدي تمنيت لو أن الله قيض لحي الرويس الذي ولدت فيه أو قرى وادي ينبع التي ينتمي إليها أجدادي شيخا مثل الشيخ ابن سعدي الذي حفظت مدونته من التاريخ الاجتماعي لقضاء الظفير ما كان من المؤكد أن يطويه النسيان لولا ما وثقه منه على نحو يمكن معه أن نقول أن تلك المدونة كانت تثبت ما كان صاحبها يحرص على محوه وتنهض الكتابة فيها بوظيفة تقف على النقيض من وظيفة الكاتب، ولم يكن ذلك يتأتى لغير ابن سعدي الذي كان رغم انتمائه فكريا للحركة السلفية إلا أنه كان منتميا في جذوره الثقافية ورصيده المعرفي لنفس الجماعة التي يسعى إلى تغييرها. كتاب ابن سعدي يقدم لنا مدونة انثروبولوجية هامة تستحق من صديقنا قراءة أخرى لا تأخذها على أنها مجرد مجرد (وثيقة تاريخية تشير إلى حالة تاريخية) أو (تمثل لحظة مهمة من لحظات قضاء الظفير في الربع الثاني من القرن الرابع عشر؛ هي اللحظة التي غمرت فيها الموجة الشجرة)، قراءة أخرى ينعتق فيها الشدوي من ثنائية الشجرة والموجة ويقف عند هذه الشجرة التي بقيت وارفة في مدونة سعت إلى اجتثاث جذورها. وعلق الدكتور محمد ربيع الغامدي يعد كتاب الإيضاحات السلفية للشيخ ابن سعدي وثيقة أنثروبولوجية ثقافية نادرة بحق. إذ إنه احتفظ لنا بكثير مما كان يمارس في الحياة الاجتماعية في المنطقة التي كانت تسمى (قضاء الظفير) وهي منطقة الباحة اليوم. وقد أشار إلى هذه النقطة الشدوي في ورقته بقوله عن الكتاب: "إنه عرض خلاصة تركيبية للثقافة في قضاء الظفير … وتكفل بضبط عناصرها المكونة، وبتحديد المواقف الذهنية التي تضمرها". ولهذا أرى أنَّ هذا الكتاب أهم من كثير مما صدر عن المنطقة نفسها من كتب وموسوعات ودراسات ومقالات. إذا كانت الميزة الكبرى في هذا الكتاب تكمن في كونه الوثيقة الاجتماعية الراصدة للممارسات والطقوس والعادات والتقاليد والأشعار والأزجال في مجتمع معين في فترة زمنية محددة فإن مشكلته الكبرى في الوقت نفسه فيما أرى هي "تأويل" كل هذه الممارسات الثقافية تأويلا دينيًّا صرفا، مع أن كثيرًا منها لا يتعلق بالدين. ثم إن التأويل الديني المتبع كله يسير بمنطق واحد هو منطق "الإدانة" للأقوال والأفعال بلا استثناء، وبصرامة ظاهرة. وقال الدكتور عبدالله الخطيب تستمر المحاولات لفهم التحولات الدينية والثقافية التي تولّدت عن انتقال الدعوة السلفية، وفقا للرؤية التي يطرحها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، من منطقة جغرافية محددة (نجد) الى باقي مناطق المملكة العربية السعودية، الدولة حديثة النشأة آنذاك. وقالت باعشن:" أما العلاقة بين الشجرة والموجة في الاستعارة الأصلية فهي ليست صدامية بل داعمة وتكميلية، وعند كل نقطة تواصل تقدم الموجة جزءا من التغيير الذي تتبناه الشجرة تلقائياً وتمتصه فروعها لتصبح أكثر ثراء وتنوعاً، بمعنى أن العلاقة بينهما ليست متوازية، وإنما بعدية. شجرة الشدوي وموجته يجمع بينهما التنافس على الفوز والصراع من أجل البقاء، علاقة تطور داروينية بحتة عمادها البقاء للأفضل". وقالت الدكتورة فاطمة الياس:" خيل لي وأنا اقرأ ورقة الأستاذ الناقد علي الشدوي ،" الشجرة والموجة" بأني إزاء تراجيديا تحكي حكاية إنسان قضاء الظفير مع "موجة" التغيير التي عصفت و "شوهت" الكثير من ملامح الذاكرة الجمعية والممارسات والطقوس الشعبية التي تضرب في اطناب تاريخه الرابض وانتمائه للأرض". وقالت الاستاذه علياء العمري :"قدمت الورقة تحليلاً ومراجعة وثائقية لكتاب بن سعدي الذي تناول فيه وصفاً للحياة الاجتماعية السائدة في قضاء الظفير في فترة زمنية محددة تمت الاشارة لها، فالسؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان هو كيف حدث هذا التغير في قضاء الظفير وأقصد هنا مراحل التغير؟! والسؤال الأهم هو هل صور كتاب بن سعدي الحياة الاجتماعية في قضاء الظفير كما كانت فعلياً في ذلك الوقت كما هو في الدراسات الأثنوغرافية؟!" وشهدت الحلقة التي أدارها الناقد الدكتور محمد ربيع الغامدي مداخلات عدة من الحضور وكان من أبرز الحضورالدكتور سعيد السريحي و الدكتورعبدالله الخطيب والدكتورة لمياء باعشن والدكتورة فاطمة الياس وعبدالعزيز قزان وعلياء العمري.