كنت احضر قبل أيام حفل زواج لابن صديق لنا في جدة .. ولأن (جدة – غير) فلم يكن خروجي من بيتي باتجاه حفل الزواج إلاّ بعد التاسعة والنصف مساء .. المهم أننا بعد الوصول للحفل ظللنا نتفرس وجوه بعضنا، أو نقلّب محتويات جوالاتنا ، رغم ايقاعات الفرقة الشعبية الصاخبة التي كانت تصم الآذان ولم نفهم منها جملة واحدة ، حتى اقتربت الثانية عشرة ليلاً من دون أن يدعونا صاحب الفرح للانتقال لصالة الطعام. أنا في حقيقة الامر لم أستطع مواصلة الجلوس بعد أن أعلن الليل أنه قد انتصف ، فبارحت المكان ميمماً شطر بيتي وأنا أردد سؤالاً حانقاً .. إلى متى وحفلات الزواج في جدة تقام في (قاع الليل) ما الحكمة (يعني) بالضبط .. وهل ثمة (مصلحة) عظيمة من (ربط) الناس إلى منتصف الليل في قاعة أفراح ،وكذلك أخواتنا النساء اللواتي يكون موعد خروجهن قرب صلاة الفجر ، ما المغزى من إهدار الوقت وارهاق الناس؟ السؤال الذي تعبنا من كثرة ترديده .. أين المسؤول الذي بيده تبديل هذا النمط من الثقافة الفرائحية المغموسة في عمق الليل ؟. الزواج في الباحة: ما تقدم هو جانب ومن الجانب الآخر ف ( حفلات الزواج) في منطقة الباحة – كمثال وقد عشتها كثيرا – أقول تعد عنصراً مهماً من تشكيلة الإنسان والمكان والتاريخ بالمنطقة ، وخلال زيارة سريعة قمت بها الأسبوع الماضي إلى الباحة .. رأيت ( حفلات الزواج) الحدث الأهم هناك بحيث كان يطغى على غيره ، ففي كل يوم تقريباً حفلة .. وفي كل قصر فرح ومناسبة .. والواقع أن حفلات الزواج بالباحة لها طابع خاص ربما تختلف تتميز به عن كل مناطق السعودية ،فالحفلات بالباحة تبدأ منذ الخامسة بعد العصر .. ووجبة العشاء تقدم بعد صلاة المغرب .. وإذا تأخرت تكون بعد صلاة العشاء مباشرة .. ولا تحل الساعة العاشرة ليلاً .. إلا والكل معه أهله في دارهم .. وقد انفض السامر ، وتفرق الأحبة ، وطار العريس بعروسته .. وانتهت الحفلة إلا إن كانت (العرضة الشعبية الجنوبية) مصاحبة للحفل فإن فترة السهرة – بالنسبة للرجال- تمتد الى الحادية عشرة مساء كأقصى حد. حفلات الأمس واليوم: بداية وخلال تأملي للحفلات التي حضرتها .. كنت أحاول أن أعقد مقارنة بين حفلات الأمس واليوم .. تلك الحفلات التي كنا نحضرها .. ونحن في سن الطفولة .. وكيف كانت تسير وتجري .. ثم كيف تبدلت الأحوال – الآن – وتناغمت مع إيقاع العصر .. فدخلها واعتراها التطوير والاضافة والحذف .. ففي الماضي – غير البعيد كثيراً – كان أبرز ما في الحفلة وصول سيارة العروس وما يرافقها من موكب مهيب .. تشرئب له الأعناق .. وتتطلع له الأبصار .. في مشاهد عفوية وبروتوكولية بسيطة لكنها جميلة. كان الموكب السعيد يصل بعد صلاة الظهر بقليل .. ويتعين على العريس ووالده .. أو أخيه الأكبر(إن كان الوالد متوفى) أن يكونا على مقربة من مكان نزول العروس من سيارتها .. وعلى العريس أن يتوشح (بالجنبية) وهي لمن لا يعرفها سكين كبيرة لها مقبض وحادة من الجانبين ومدببة الرأس ومغمدة في غمد مزخرف وذات حزام بحيث تلبس في منتصف الجسم .. كما أن عليه أن يزيد عليها إن استطاع توشح (مسدساً) له حزم من فوق الكتف , وكذلك حزام آخر مليء بالرصاص بحيث يبدو العريس (مفخخاً) كنوع مهم من إظهار القوة والرجولة ، ويتولى مع والده إغداق المكان بعبارات الترحيب ، فيما العروس وقريباتها يهبطن من السيارات إلى داخل منزل العريس ، وتجلجل المكان كذلك (زغاريد) والدة العريس وأخواته وخالاته وغيرهن. جهاز العروس: أما السيارات المرافقة .. فكانت تحمل ( جهاز العروس ) وهو – عبوات أو صفائح التمر – وبعض المفارش والبطاطين والمساند وأكياس الأرز ، وعبوات الشاي .. الخ … وكان الرجال هم الذين يتولون إنزال وحمل الجهاز إلى المكان المخصص له في بيت العريس .. وكان من المهم جداً تأمل (كمية الجهاز) لأنه سيكون مصدر فخر كلما كان كبيراً وعديداً ومتنوعاً ، وهو طبعا دليل كرم والد العروس ، ومعيار على أريحيته .وتنطلق النساء في ممارسة عادة (اللعب) بالضرب على الدفوف في مكان مغلق عن الرجال ، وإحداهن أو أكثر (الشاعرة) تتولى الترنم بالقصائد التي تمدح العروس وأهلها ، وكذلك العريس وأهله .. فيما النساء اللاعبات يرددن ، والدفوف تُضرب .. حتى إذا ما حان وقت طعام العشاء ، الذي كان يتم في أحايين كثيرة قبل صلاة المغرب .. وأحياناً بعده مباشرةً كحدٍ أقصى.. ولا يقل عدد الذبائح بحال في تلك الليلة عن 15 خروفاً .. يتم ذبحها ، وسلخها ، وطبخها في أوان واسعة ، وقدور ضخمة .. وذلك بقرب بيت العريس ، والطباخون هم الأقارب والجيران وأبناء العم .. حيث لم يكن هناك حينها طباخون بالأجر ولا يحزنون. مخيم صغير: ويتم أحياناً إقامة مخيم صغير خارج دار العريس ليجلس فيه الرجال .. تحسباً من حدوث المطر .. وكانت أيام الفرح قديماً – وقد عشت جانباً منها أيام الطفولة – تقام على مدى ثلاثة أيام ، بواقع غداء وعشاء كل يوم..وفي اليوم الثالث فطور فقط , على العصيدة وأطباق اللحم مع المرق في إناء واحد ..ويسمى (المعرّق) .. وكان أهل العريس وجماعته يصطفون في شكل قوس لاستقبال والد وإخوة وأهل وجماعة العروس.. الذين يصلون دفعة واحدة بعد حوالي ساعتين من وصول موكبها. ويتبادل الجميع عبارات الترحيب بصوت مرتفع .. كدليل على الحفاوة والفرحة وحجم الترحيب .. وما أن يجلس الضيوف في مكانهم المخصص .. حتى يتلو أحدهم الكلمة المختصرة التي تعارف عليها الناس هناك .. وتسمى (العلوم) وهي كلمة شاملة بعبارات مختصرة ، ذات سجع لغوي ، تجمع أخبار الأمطار والحصاد والثمار ، والحفاوة بهذه المصاهرة .. ويتلوها أكثر الضيوف مكانة مثل شيخ القبيلة أو نحوه , وبعد انتهاء كلمته يرد عليه المستضيفون بكلمة مماثلة .. ويتم ذلك على وقع تناول القهوة العربية والتمور .وإجمالاً فقد امتازت ( أفراح ) أيام زمان بالعفوية الشديدة ، والتعاون والمساعدة بالمال واليد . بساطة وفرحة: وكانت المناسبة تتوشح البساطة ، وكانت فعلاً زاخرة بالفرحة والسعادة .. فكل أهل القرية يحضرون جميعاً للمباركة .. والجميع يلتف حول المأدبة ، وما يتم طبخه يؤكل بالكامل ، ولا يرمى منه شيء .. والعروس تباشر عملها المنزلي منذ صبيحة اليوم التالي .. فتخرج مبكرة في مشاركة رمزية مع بعض النسوة من القريبات إلى البئر لإحضار الماء في ( القرب ) المخصصة لحمل الماء ، والنساء ينتظرنها هناك بشوق لرؤية طلعتها البهية .. ولا يمضي أكثر من أيام إلا وهي في الحقل تباشر العمل المعتاد الروتيني مع النسوة عادة .. أما بيتها فإنه نفس بيت العائلة ، فليس هناك شقة مستقلة ، ولا منزل خاص مثل الآن ولا يحزنون.. والغريب أن الجميع كانوا يعيشون في وئام وسعادة .. فلا خلافات أسرية ، ولا مشاحنات نسوية ، وإنما الكل ( فريق عمل ) يكدح سحابة يومه وسط المزارع ، ليؤمن لقمة العيش حتى صلاة المغرب ، وينام الليل بطوله .. وما أن تنبثق أولى بشائر الفجر ، حتى يبدأ الجميع معاودة ممارسة عملهم ، وفق إمكانات كل واحد منهم ، ومحددات نشاطه. أفراح اليوم: أما " أفراح اليوم" فقد تبدلت ، وطرأ عليها من التعديل والزيادة والنقص .. ما جعلها شيئاً آخر مختلفاً ، فقد صارت حفلات الزواج تقام في (قصور الأفراح) .. وأصبح الطبخ والنفخ بيد العمالة المستوردة .. وانطوت حكاية (جهاز العروس) الذي كان يرافق موكبها .. فقد أصبح لها شقة مستقلة ، يتولى العريس تأثيثها مبكراً .. وتم اختصار أيام الفرح من ثلاث ليالٍ إلى ليلة واحدة .. وأصبح الحاضرون على مأدبة العشاء أقل من عدد الذين يحضرون للتهنئة .. لأن هناك مناسبات أخرى في القرية بعض هؤلاء مدعو لها سلفاً .. وصار يؤكل نصف المأدبة .. ونصفها الآخر إما للجمعيات الخيرية ، أو إلى الخلاء في مكان سحيق وراء الجبال .. وانقضى زمن توشح العريس (للجنبية) وحزام الرصاص والمسدس .. وحل مكانه المشلح ، والحلاقة الناعمة ، و(البارفان) الباريسي العابق ، بل ان هناك الآن محلات تجارية صارت متخصصة في (تجهيز) فتى الأحلام – العريس ب (الشيء الفلاني) . من البئر إلى الفندق: أما صاحبة الحسن والدلال – العروس – فإنها بالتأكيد لم تعد بحاجة لأن تنطلق إلى البئر صباح اليوم التالي للعرس ، أو أن تغيب في غياهب الحقل .. بل صار بعضهن يعشن بين غرف وردهات فنادق الخمسة نجوم .. ثم تطير بعد ليلة الحفلة مع عريسها إلى حيث مكان شهر العسل في واحد من بلدان ما وراء البحار .. وغابت إلا في النادر (الخبزة البلدي التي كان طول قطرها قرابة المتر ، وتحتاج لأكثر من رجل واحد ليحملها .. وما يرافقها من السمن البلدي والعسل .. وجاء مكانها الأرز والفواكه ، والطرمبة ، والسمبوسك ، والسلطات. هكذا جاء الفارق بين صورة (الأفراح ) قديماً وحديثاً . وكل ما تقدم تداعى إلى مخيلتي قبل أيام .. وأنا في أحد قصور الأفراح بالباحة .. أتأمل وجوه الحاضرين ، وحركتهم, وإيقاع المناسبة منذ بدايتها حتى نهايتها .. وقد كانت صورة ( أفراح ) الأمس القريب تتداعى داخل ذاكرتي .. وكأنها شريط سينمائي قديم تلكما هما الصورتان .. القديمة والجديدة معاً ، كتبتهما عبر السطور السابقة .. أما القارئ العزيز , فأترك لفطنته أن يحدد المزايا والسلبيات بين ما كان قديماً ، وما اعترى ( الفرح ) من جديد .. يقولون أنه لابد منه , كصيرورة للزمن تقودنا رغماً عنا. محاور لم تختف: واجمالا فإن الحفلات التي رأيتها هذا الأسبوع فقد امتازت بالحضور الكثيف من الرجال والنساء اضافة إلى أن ثمة محافظة على عدد من تقاليد الزواج ، ومنها (العلوم) أي الأخبار التي تتألف من كلمة قصيرة مليئة بالسجع البياني ، فيها اخبار المكان الذي قدموا منه ومباركتهم للداعين بالزواج ، يلقيها كبير الضيوف بعد وصولهم مباشرة .. ثم يقوم كبير الداعين بالرد على العلوم بكلمة أخرى قصيرة .