أخيرا اتضح المشهد وحسمت أوراق اللعبة ..قرر الرئيس مواجهة الجنرالات، فقرروا الإطاحة به وبرئيس وزرائه، في مشهد يعيد للأذهان حكم العسكر ويعصف أمام الخارج بتجربة موريتانيا، ولتدخل البلاد مجددا في قلب الامتحان الصعب . جنرالات متحفزون ..ونواب غاضبون يسعون لإسقاط الحكومة بعد أن قدم 48 منهم استقالتهم من الحزب الحاكم منذ يومين ..ورئيس منتخب توهم أن صلاحياته الدستورية وشبه الديمقراطية الوليدة سيمكنانه من إزاحة من يشاء من العسكر دونما إخلال بالأمن أو بموقعه . إنها الحالة الموريتانية التي غنى لها الجميع وتراقص لها السياسيون زمنا طويلا قبل أن ينقشع الغبار ليتضح فعلا كم كان ولد الشيخ عبد الله رهين " المستقلين والعسكر " ، وكم ضاعت أحلام الرجال حينما صدقوا أن البلاد خلفت ورائها عهود الظلام تحت قبعات الجيش كما يقول أغلب الموريتانيين الآن . سياق الأزمة ومظاهر الصراع لم تكن الصور التي التقطها المصورون للجنرالين القويين في المؤسسة العسكرية " محمد ولد عبد العزيز " قائد الأركان الخاصة لرئيس الجمهورية وقائد الحرس الرئاسي أيضا، و " محمد ولد الغزواني " قائد الجيش، وهما يدلفان إلى مكتب الوزير الأول المكلف إبان تشكيلة الحكومة السياسية الأولى برئاسة الزين ولد زيدان في إبريل 2007 مجرد صور عابرة؛ بل كانت لحظات حاسمة في تاريخ موريتانيا ما بعد " التغيير " ..إنها لحظات اعتراض ونصيحة لرئيس الوزراء القادم من دهاليز مؤسسات السلطة المفلسة وتحذير للرئيس المنتخب من مغبة إشراك رموز طالما تعهد " سيدي ولد الشيخ عبد الله " نفسه للعسكريين والنواب المستقلين بعدم إشراكهم في اللعبة السياسية . مضى عام على تشكيل أول وزارة في عهد ما الانقلاب، وقرر الرئيس المفعم بالحماس بفعل سنة من الإنجاز قال إنها لم تستثمر لدى صانعي الإعلام في موريتانيا مواجهة الجنرالين تحت تأثير الضغط النفسي الناجم عن اتهام المعارضة دوما له بالارتهان للجيش الذي أوصله للسلطة ولو بأصوات الموريتانيين . وعلى خلفية اتهام النواب للحكومة الأولى بسوء الأداء، تقرر تشكيل حكومة جديدة برئاسة الوزير المكلف السيد " يحيى ولد أحمد الواقف " في مايو 2008، وأبقى على وزراء محسوبين على الجنرالين ك " رشوة للعسكر " في التشكيلة الوزارية الجديدة، وراهن " سيدي ولد الشيخ عبد الله " على مروءة رفيقيه وتبدد غيوم الفرقة مع الأيام عل الأمور تهدأ والمشهد القادم يقنع منتقديه أنه فعلا هو الرئيس الحاكم في موريتانيا، لكن هل كان ولد الشيخ عبد الله مصيبا في توقعاته؟ . كانت الأسابيع الأولى للوزير الواقف " كفيلة بإسقاط الحكومة شعبيا من خلال حملات إعلامية ساعدت فيها الوجوه القادمة في عهد ما قبل الثالث من أغسطس ) 2005 أيام الإطاحة بالرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع ) وأججتها مظاهر التأزم الناجمة عن ارتفاع الأسعار ونقص الغذاء وانعدام الأمن وتردى الحياة السياسية بعدما خابت آمال الحالمين بفجر جديد بعد سنوات من الظلام الذي عاد صناعه . تعهد الرئيس بتثبيت أسعار الأرز فواصل الأرز ارتفاعه، ولم تقنع تعهدات الرئيس جياع الداخل ولا عطاش العاصمة، وفشلت حملات تنظيف الأسواق من صغار التجار بعدما أججت مشاعر الكراهية بين السكان، وحققت جرائم القتل والاغتصاب والمخدرات رقما قياسيا في ظل أمن يترنح بين التحديات الناجمة عن ظهور خلايا مسلحة وإكراهات واقع اقتصادي ضاغط على مجتمع يعيش أغلب أفراده تحت خط الفقر . تراجعت الحريات العامة، فأغلق صوت المواطنة ( أول إذاعة مستقلة في موريتانيا ) ، واستدعيت صحيفتي " القلم " و " البديل الثالث " ، واعتقل مدير صحيفة " الحرية " .وكان الأمر على ما يبدو تمهيدا من بعض أطراف العملية السياسية لحرق الرئيس داخل الأوساط الشعبية للاستفراد به في مشهد نادر الوقوع في العالم العربي . وفي ظل مشهد متأزم كهذا عاود العسكريون إطلالتهم المعهودة وبدأ استدعاء النواب لكن هذه المرة ليس للضغط عليهم من أجل دعم المرشح " ولد الشيخ عبد الله " بل لصياغة رؤية سياسية مشتركة تمهد للمرحلة المعروفة بما بعد حكومة ولد الواقف السياسية . نجح العسكريون في التكتم على " المشروع " السياسي الجديد في ظل إقصاء رموز الكتل الداعمة للرئيس ولد الشيخ عبد الله وإشراك آخرين أقل ما يقال عنهم أنهم عوقبوا في ظل انتخابات برلمانية نزيهة من قبل العارفين بهم . وبغض النظر عن صحة الإساءة التى تعرض لها الجنرال النافذ " محمد ولد عبد العزيز " من قبل أحد رموز الحكم المطاح به والأمين العام للرئاسة حاليا " بيجل ولد حميده " خلال شهر يونيو الماضي، أو انزعاجه من حفل جماعي لم يستشر فيه داخل القصر الذي تولى أمنه، أو تمرير الرسائل في ظل غيابه دون إبلاغه؛ فإن الخلاف بين الرئيس المنتخب والجنرال النافذ بلغ أوجه ولم تنفع فيه وساطة الأصدقاء بفعل تحريض المقربين - كما قيل - وبعض المستوزرين الجدد في مشهد مثير للاهتمام بعد سنة ونصف من أول انتخابات رئاسية حرة ونزيهة في البلاد . ويقول العارفون بدهاليز اللعبة السياسية في موريتانيا إن العلاقة بين الطرفين وصلت إلى طريق مسدود رغم نفى ولد الشيخ عبد الله لحلفائه في الأغلبية وجود أي خلاف بينه وبين الضباط المذكورين وإصرار ولد الواقف على أن الأمور تحت السيطرة وأن الخلاف الدائر بينه وبين بعض المستاءين من حزبه في طريقه إلى الحل، وهو ما لم تسعفه تطورات الأوضاع المتلاحقة . الطريق إلى الانقلاب وفي ظل دولة كموريتانيا ودستور كدستورها يملك الرئيس الكثير من الأوراق بحكمه موقعه وصلاحياته الواسعة والشرعية الناجمة عن أي انتخابات شفافة ونزيهة، فضلا عن الدعم الخارجي الذي يحظى به عادة حكام العالم الثالث غير المشاكسين .وتحديدايمتلك الرئيس تعديل الحكومة الحالية قبل عرضها على البرلمان وبعده، وإسقاطها من خلال تكليف رئيس وزراء جديد، كما يمتلك الحق في حل البرلمان والدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة .ويعطيه الدستور حق إقالة الضباط وتعيينهم بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة بل وحتى حل الوحدات العسكرية واستبدالها ...لكن فعليا هل يمتلك ولد الشيخ عبد الله كل ذلك؟ . واقع الحال يشير إلى أن ثمة تقييدات داخلية وخارجية أعاقت استخدام الرئيس صلاحياته المنوطة، فقد أفادت أنباء عشية استقالة الحكومة طوعيا، بأن فرنسا وأسبانيا أبلغتا الرئيس الموريتاني رفضهما المطلق إجراء أي انتخابات برلمانية مبكرة أو إقالة الجنرالين لأن البلاد تمر بمرحلة بالغة التعقيد وتحتاج إلى وجودهما لمواجهة المد الإسلامي وتحديدا تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، كما رأى وزير خارجية أسبانيا في تصريح أطلقه يوم 9 يونيو بعد لقائه الرئيس الموريتاني أن " إسقاط الحكومة مظهر من مظاهر الرقي السياسي " .وهكذا خذل الخارج الرئيس بعد أن وجه خطابا شديد اللهجة للنواب . ووجد الرئيس نفسه في موقع أخلاقي لا يحسد عليه بعد تجدد الأزمة مع النواب، فمجلس الشيوخ الموريتاني ( الغرفة الثانية للبرلمان والتي لا يحق له حلها أو منعها من ممارسة دورها الدستوري ) دخل الأزمة السياسية من باب آخر لعله كان الأكثر إيلاما لرئيس متدين مثل الرئيس ولد الشيخ عبد الله، وذلك حينما اتهم أعضاء بارزون في المجلس زوجته بالفساد واستغلال السلطة والثراء غير المشروع وطالبوا نجله بالمثول أمام لجنة برلمانية . تتالت فصول الأزمة السياسية في موريتانيا ..واندفع عشرات النواب إلى الواجهة من خلال استقالات جماعية من حزب ( العهد الوطني للديمقراطية والتنمية " عادل ")الحاكم، وتصدر المحامى الموريتاني المعروف " سيدي محمد ولد محم " واجهة الأحداث وذلك حينما أعلن عزمه طرح ملتمس رقابة على الحكومة أمام الجمعية ودعا نواب الأغلبية والمعارضة إلى مساندة الفكرة .وفعلا نجح في حشد الدعم اللازم ( ثلث عدد النواب ) لإسقاط الحكومة، غير أن الوزير الأول يحيى ولد أحمد الواقف فاجأ الجميع باستقالة حكومته في 3 يوليو قبل أقل من ثلاثة شهور من تشكيلها، رغم تهديد الرئيس ولد الشيخ عبد الله للنواب بحل الجمعية الوطنية إن هم أصروا على حجب الثقة عن الحكومة قبل عرضها لبرنامجها السياسي .اضطرالرئيس للتراجع أمام ضغوطات الداخل والخارج، وسلم مجددا للجنرالين زمام التشكيلة الوزارية الجديدة والتي شكلها ولد الواقف ثانيةً يوم 14 يوليو 2008، وضمت مؤيدي الرئيس فقط مع استبعاد الوزراء السابقين من القوى الإسلامية واليسارية . وهكذا حسم الوضع السياسي في موريتانيا فعليا ومعنويا للنواب ومن ورائهم قادة المؤسسة العسكرية النافذين، فالرئيس فشل في حل البرلمان وتراجع عن توسيع أغلبيته الرئاسية وأبعد الأحزاب الحليفة له ( اليساريون والإسلاميون ) تحت ضغط قادة المؤسسة العسكرية ونواب البرلمان واتجه إلى تشكيل حكومة أغلبية يكون فيها الدور الأبرز للنواب الغاضبين .ومعذلك، حاول الرئيس استعادة التوازن المفقود في موقع الرئاسة، وحاول الآخرون إكمال سيطرتهم على مؤسسات السلطة .فعمد الرئيس إلى مطالبة البرلمان بعدم عرقلة تطبيق برنامجه الانتخابي وإلا ليس أمامه من حل سوى اللجوء إلى الشعب وحل البرلمان، كما رفض في الوقت ذاته أي احتمال لاستقالته قبل اكتمال ولايته الرئاسية .وفيالمقابل كان العسكريون النافذون يؤلبون النواب على معاداة الرئيس، فدعا 55 نائبا لعقد دورة طارئة يوم 10 أغسطس الجاري يناقشون خلالها تشكيل محكمة عدل سامية تخول صلاحية محاكمة رئيس الجمهورية في حالة الإخلال بدوره، وإنشاء لجنة برلمانية للتحقيق في مصادر تمويل هيئة خيرية تشرف عليها زوجة الرئيس .وبعد ذلك بأربعة أيام، وفي يوم 4 أغسطس، أعلن قائد النواب الغاضبين " سيدي محمد ولد محم " عن استقالة 48 من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ التابعين للحزب الحاكم وعزمهم تأسيس حزب جديد .ومغزىهذا الإعلان أن الرئيس ورئيس الوزراء سوف يفقدان الأغلبية البرلمانية بعد أن فقدا القدرة على تشكيلة حكومة تحافظ على مكانتهما السياسية . ومن وجهة نظر الرئيس، فإن الجنرالين هما السبب الحقيقي لثورة النواب ..وهنا لا تجدي مواجهة النواب الذين يمتلكون الحق القانوني والسياسي في الاستقالة، فقرر مواجهة الثائرين العسكريين، وأعلن إقالتهما الفجائية ..وكعهد موريتانيا لم يقبل المتحكمان في زمام العسكر هذا القرار، فحدث الانقلاب المباشر .وهكذا ينتقل البلد من سيطرة العسكر على السياسيين بشكل غير مباشر إلى تجربة جديدة من حكم العسكر ...وكأن شيئا ما من تجربة ديمقراطية لم يتعلمه الموريتانيون خلال ثلاثة أعوام خلت . مراسل شبكة إسلام أون لاين .نت في موريتانيا .