سورة قريش كانت أولى التحديات التي واجهتني في التعليم إبان طفولتي .. لم يستطع أحد أن يساعدني على التمكن من مفرداتها وحفظها سوى والدي ، وحده يرحمه الله الذي اصطبر على تململي إلي أن صممتها عن ظهر قلب ، كان طويل البال على يأسي وعجزي للحد الذي يشعرني الآن بالبكاء ، وللحق إن أكثر ما يصيبني بنوبات البكاء هي اللحظات التي تراودني فيها كل ذكرى جميلة تجمعني معه غفر الله له وأنزل عليه شآبيب رحمته وعفوه ، ( وللعلم .. جميع ذكرياتي مع والدي جميلة بجماله يرحمه الله ) ، أما سبب شعوري بالبكاء كلما استعدت تلك الذكريات فلا أدري ما هو ؟ ربما لأنه ما من ذكرى أجدني فيها كما ينبغي أن يكون عليه الولد مع والده ، ليس اعترافاً مني بالعقوق معاذ الله ، إنما لشعوري الملح أني لم أكن أُحسن اقتناص تلك اللحظات الودودة من طرفه بما يحاذيها من الاندماج والمتعة من طرفي ، ذات مرات .. حينما كان ينتظرني عند البوابة الخارجية لحوش المنزل ليكون آخر من يودعني عند أسفاري ، لم أكن أنفعل مع هذا الشعور الأبوي وما ينضح عنه من دفء كما يجب ، كنت فقط ألثم يده وأقبل رأسه ثم أذهب ، وحينما أذهب لم يكن يذهب هو !! كان يقف متسمراً مكانه ولا أدري متى يتحرك ؟ وأثناء ذلك لم تكن تمتماته بالدعاء لي تتوقف مطلقاً حتى وهو يرى سيارتي تتوارى بين أبنية القرية وأشجارها ، حينما أتذكر هذا الموقف وصورته المهيبة عبر المرآة الداخلية وأقارنه بتصرفي الذي لم يتعد ما ذكرته سابقاً أشعر بوخز الضمير .. كان بإمكاني التصرف بأفضل من هذا !! تخيلوا .. بالرغم أني كنت قد تعينت مدرساً منذ أعوام إلا أنه كان يأتيني على انفراد قبل سفري بساعات ليضع في يدي مبلغاً من المال !! ومن حماقتي كنت أمتنع عن أخذه !! لا ؛ وأذكّره أني قد أصبحت موظفاً ، صحيح كنت أرد المبلغ بلطف بالغ .. لكني وللحق .. أشعر بأن تصرفي هذا لم يكن لبقاً البتة ، كان بإمكاني أخذه وإعادة تدوير صرفه إليه في صورة هدية ، أو في وجه من وجوه الخير على نيته ، أو على الأقل الاحتفاظ به في صندوق ذكرياتي . طبعاً هذه المواقف ليست ما أعني فقط .. بل كل ذكرياتي معه يرحمه الله ، هو في مستوى شاهق من الأبوة بينما كنت أكتفي بالمنطقة الآمنة من البنوة ، هو يشبع اللحظة بالعاطفة وأنا أقف عند الحد الأدنى منها ، كان متفوقاً جداً في أدواره بينما أدواري لم تتجاوز عتبة المعتاد والواجب فقط ، لذلك ستظل هذه اللحظات بقدر اعتزازي باكتنازها في ذاكرتي وما تسببه لي من ابتسامات شاردة مصدر خوف ورهبة ، لكن ماذا عساني أصنع إن كان والدي بهذا السمو الإنساني الذي يفوق العادة ؟ لم أكن سوى نبتة صغيرة نمت تحت أفياء شجرة باسقة ، لم يكن بإمكانها أن تكون في عظمة الشجرة ولم يكن بإمكانها أن تجاري عطائها وظلها وأنسها ، هكذا هم الآباء . وحينما يرحلون يتركون دائماً لنا الألم والحزن والوحدة ودفتر غزير من الذكريات. @ad_alshihri [email protected]