نعم، هذه حقيقة في ذهن شاعر يقاوم الشكّ بإيمانه، وبعمق شعوره الضارب في عمق قلبه. فيأتي من تلقاء إلهامه بقصيدة مكتوبة بالشكل الذي يجعل القارئ يتساءل: هل هذه قصيدة، أم إيقاع قلب؟! مذهلة معرفة الشاعر للغة قلبه، لتكون هي ترجمان أحاسيسه، لغة ذات لحن موسيقي تتأرجح بين مدّ «حب» وجزر «شكّ» ترسم على شاطئ ذاكرته صورة مغازلة شاعرية بين بحر الشعور ورمال الخوف. عبدالله الفيصل ومعزوفته «ثورة الشك»، هذه الثورة التي غيّرت مفهوم الشك السلبي إلى شك مقاو.م، شك ذاتي يثبت للإنسان أن الشك بمن تحب هو شك في ذاتيتك، في نفسك الأمّارة بالسوء، إلى أن يعود لها استقرارها الشعوري، أو على الأقل: يخرس شكها في سبيل المحافظة على علاقة ودٍّ وثيقة لا تنقطع أو تموت. أكاد أشكّ في نفسي لأني أكاد أشكّ فيك وأنت مني يقول الناس أنك خنت عهدي ولم تحفظ هوايَ ولم تصُني وأنت مناي أجمعها مشت بي إليك خطى الشباب المطمئنّ. حين ينقاد القلب بسكينة العارف بطبيعة شريكه، الآم.ن له، الساكن إليها، يصبح الارتياب شيئا من الوباء، لذلك فحديث المحبّ عنه حديث السائل لا الموق.ن، المستغرب لا المتوقّ.ع، فيُجري السؤال على ألسنة الناس تقديرًا وإكرامًا لخليله. ولا يدَع للتساؤل مجالاً كي يتسّع دون أن يضيّقه بإثبات مكانته، وتأكيد مشاعره ناحيته. ولهذا مشَت إليه الخطوات هونًا واطمئنانا.. وقد كان الشباب لغير عود يولّي عن فتى في غير أمن. وها أنا فاتني القدر الموالي بأحلام الشباب ولم يفتني كأن صباي قد ردّت رؤاه على جفني المسهد أو كأني وككل المحبين الذين يرون في محبتهم حياة، نعيم وجنّة، يستردّ بها المرء وإن كبر مرحلة الشباب، حيث يعيش قلبه ريعان فرحته، وزهو الإحساس المُشبَع بالنشوة حتى لو كان مصحوبًا بالأرق والسهد والسهر. يكذب فيك كل الناس قلبي وتسمع فيك كل الناس أذني وكم طافت عليّ ظلال شكّ أقضّت مضجعي واستعبدتني كأني طاف بي ركب الليالي يحدّث عنك في الدنيا وعني هكذا داعي الفؤاد حين يفيض بالوداد، فيحجب رجمَ الكلام عن إصابة الإدراك مع بلوغها السمع وإلحاحها على التصديق، القلب أشبه بالجدران في ردّ الصدى، والأذن نافذة تدخل منها الأقاويل وتعبس منها النفس من ضرب الوساوس التي تأسر فكره وتطوف به شتى الطرق. على اني أغالط فيك سمعي وتُبصر فيك غير الشكّ عيني وما أنا بالمصدّق فيك قولاً ولكني شُقيت بحسن ظنّي وبي مما يساورني كثير من الشجن المؤرق لا تدعني تعذّب في لهيب الشكّ روحي وتشقى بالظنون وبالتمني كمن يسير عاصب العينين إلا عن نور في قلبه، يسير على هَدي.ه اتجاه الخليل، وتُركل في سبيله كل أحجار الظنون التي تعترض الطريق؛ مهما بلغ الشجن المرافق الذي يُسق.ط بظلاله على الداخل المشحون بالحكايات والأقاويل إذ توقَد من ورقه نار الشكّ ويستعر لهيبها كلما زاد الكلام! ليصل هذا الصبّ إلى خاتمة السير.. نهاية المشوار؛ في مواجهة لافتة عريضة لا يقوى وحده على إزاحتها، وينقصه لنزعها ماء يقين يُطفئ بها اللهيب المتطاول على إحساسه، فلا يحتاج أكثر من جواب: أج.بني إذ سألتك: هل صحيح حديث الناس خنتَ أم لم تخنّي؟! وشتان بين سؤال غيرة وسؤال تشكّك يبدّده إيمان راسخ في نفسه الشغوفة، قد رفض طيلة عمر معرفته بالمحبوب حلوله، لكنه يريد لهذه النار العارضة أن تنطفئ. فحريق الالتباس يضرّ مساكن الوداد الشاهقة إن طال أمدُ اشتعالها.