ما من بقعة على وجه الأرض تمثل صيغة متطورة لتجمع بشري ( دولة – مدينة – قرية ) إلا والتباينات الفكرية ثالثهما ، فالتطابق الفكري غير موجود البتة سيما في عالمنا المنفتح اليوم ، ليس لأن هذا التباين هدف مقصود لذاته تتعمد المجتمعات اختلاقه وصناعته ، إنما لأنه سنة إلهية بين خلقه ، ناجم من اختلاف مدارك الناس وطرق قراءاتهم للأحداث ، ولولا هذه السنة الربانية لما اخترع الإنسان العجلة ، ولا اكتشف دوران الأرض ، ولا وصل إلى ما وصل إليه اليوم من تقدم وتقانة. الأمم المتحضرة تسعى بكل طاقاتها لاستيعاب المختلف ، وتتعهد بحمايته طالما كان اختلافه هذا لا يشكل تهديداً لحياة أحد، ما يدلل على الوعي التام بطبيعة البشر واختلاف حالاتهم الذهنية والفكرية ، فالمهم هو استثمار ما لديك من أفكار باتاحة الفرصة لك بالتعبير عنها في إطار القانون والنظام ، لذلك هناك من يزداد تقدماً وقوة في الوقت الذي تزداد فيه تجمعاتهم رغم تفاوت مكوناتها الفكرية والدينية انسجاماً ، بينما في مناطق أخرى من العالم نجد العكس تماماً ، دول تحشد كل طاقاتها من أجل أن تصبغ مجتمعاتها بصبغة واحدة حتى بالكاد تجد داخلها ما يوحي بأن شخصاً واحداً لديه المساحة الآمنة ليفكر خارج الصندوق ، معتقدة ربما أن مثل هذا الإكراه القهري لعقول الناس على نمط فكري واحد مما يزيد في لحمتها ويصنع من مكوناتها الاجتماعية كتلة متماسكة عصية على التداعي والاختراق ، لكنها نسيت أنها بهذا التعسف تجاه سنة الاختلاف ستفضي بالمجتمع لا محالة مع الوقت للركون إلى الجمود في مقابل تخليه عن الحركة ، ومنه يتكئ على التقليد في مقابل عجزه عن التجديد ، الأمر الذي يساعد على نشوء بيئة خصبة لنمو التنظيمات الخفية التي تتخذ خوفها من الإعلان عن نفسها ونشاطها ذريعة للتكتم والتمويه ، وهكذا حتى يغدو المجتمع الواحد له مظهر يوحي بالانسجام بينما في باطنه يجثم بركان من التنافر لم يزل يتحين أدنى فرصة للانفجار، سيما مع زوال رأس السلطة أو عند تراخي القبضة الأمنية ، كما في معظم بلدان الربيع العربي .. فلا المجتمعات بقيت على تماسكها بعد سقوط رؤوس الأنظمة فيها ولا استطاعت تحقيق الحد الأدنى من الانسجام والسلام حينما تراخت قبضة قوى الأمن عليها ، والسبب هو غياب منهجية تأسيس تلك المجتمعات أصلاً على ثقافة الاختلاف وتقبل المختلف ومن ثم بناء مؤسسات الدولة على هذا الأساس بدءاً بالتعليم وانتهاء بالبرلمانات ودور القضاء ، ولكم أن تتخيلوا حال كثير من بلدان الربيع العربي لو أنها كانت بالأساس بلدانا متعددة التكوين ومؤسساتها تمثل مختلف الطبقات والفئات والمذاهب .. هل سيكون هذا مآلها ؟ بل هل كانت ستضطر أصلاً للثورات ؟ لا أظن. @ad_alshihri [email protected]