السموم تلفح كل الوجوه تجعلها أكثر جفافاً.. الشوارع تقفر من المارة، الناس يبحثون عن الأزقة المتعرجة المشبعة بالرطوبة "رواشين" المنازل تصبح هدفاً للأعين الباحثة من خلال خصاصها عما خلفها، بائع "فرقنا" يحمل على ظهره "صرة" من الأقمشة المتنوعة تفتح له الأبواب نصف فتحة دائماً.. ففي هذه الأزقة يجد رواجاً لبضاعته. شارع "الساحة" يمثل الأفضلية بين الأزقة والشوارع.. يزيده "برودة" ذلك الرجل العجوز الذي يبدأ كل صباح في اغراقه بالمياه فرش الحجر الذي يغطي مسار الشارع تشعر بلسعة برودته.. رائحة "البن المحروق" من المطحنة تعبق في طول الشارع الملتوي.. بائعو اللحم والخضروات في سوق "الساحة" لهم وضعهم الخاص وسعرهم الخاص.. زبائنه يكادون يعرفون بالاسم.. البعض يطلق عليه سوق "الكسالى". بائع النشوق يتحلق حوله البعض لقتل الوقت.. ومعرفة اخر الأخبار وخبايا السوق و.. أخذ مكانه في هدوء أمام باب "المحكمة" يرقب الداخل والخارج.. كرسي الشريط الصغير في المقهى غير مريح.. حاول أن يبدله بآخر.. فنجان "القهوة" تتصاعد أبخرته لتلسع طرف انفه ربت على كتفه صاحب المقهى وهو يقول: "العبد في التفكير والرب في التدبير".. لم يرد عليه رشف من فنجان القهوة رشفة طويلة ورائحة الهيل تملأ انفه.. ايه.. دنيا عجب.. ماذا جرى.. يطرد أمه من منزله؟ مط شفته السفلى في قرف.. "ياسيدي لكل كرب فرج ما تضيق إلا وتفرج" لا أدرى متى يأتي هذا الفرج.. لا تقنط دعني أعطيك زجاجة "بيبس كولا" حتى هدوء أعصابنا عن طريق هذه "الكولا" لا حول ولا قوة الا بالله، هناك أنواع اخرى دعني أحضرها لك. لم يرد عليه. يا ابني أسمع كلامي استعذ من الشيطان. آه الشيطان.. هناك من هو أشد منه قذارة هذا شقيقك ولا تغضب منه "انفك منك ولو كان أجدع" شقيقي عليه.. ماذا تقول..؟ أقول عليه.. لكن.. لا لكن ولا يحزنون.. أعطاه صاحب المقهى ظهره وهو يقول يارب يا هادي.. أخذ يرشف ثمالة الفنجان.. عيناه أصابهما احمرار مفاجئ شقيقك.. ايه.. ايه دنيا.. ماذا يفيد هذا الذي يطرد أمه من منزله..؟ لا شيء بكل تأكيد.. وضع قيمة فنجان القهوة.. وانتصب واقفاً.. لا يدري ماذا يفعل في لحظات الاحباط ما هو الحل..؟ تساءل بمرارة.. الحل.. انه الوخز.. المدمي.. كيف.. وأين هذا الحل، أخذ التساؤل يفترش مساحة كبيرة من ذاته وطعم المرارة في حلقه يحيل كل شيء الى علقم.. أخذته الذكرى الى عشرين عاماً خلت بكل ما فيها من حلاوة مرة وبكل ما تختزنه من حب كاره ومن بغض وحسد.. كان يمني نفسه في كل لحظة بالآتي من الأيام.. كان يقول أن المرارة لن تكون في الديمومة التي تعيش.. كان يبحث عن الاشراق في كل شيء يصبر نفسه ويعطيها كثيراً من الأمل، والهدهدة على سرير الواقع وفي كل مرة تأتيه جيوش الحقد والكراهية أكثر مما توقع وتهزم فيه كل بذور الخير والأمل. آه لابد من وضع حد لكل هذا الوجع لعن في نفسه كل النفوس المريضة المتورمة حقداً وضع رأسه بين كفيه، بصق على الأرض.. لابد من قرار لكن ما هو هذا القرار؟ شعر كأنه يعتصر من الداخل هذا اللعين الذي يطرد أمه من منزله اجتاحته رغبة ان يلقي ما بداخل جوفه.. لفح السموم يشتد أكثر.. في طريقه.. ركل بقدمه علبة صفيح ارتطمت بقدم امرأة عجوز كانت تقلب في كوم من الفجل.. والبقدونس.. والكرات.. توارى عنها في الزحام.. توقف أمام بائع التمر.. ظهره أصابه الانحناء، لحيته الكثة لا يرى فيها شعرة سوداء.. التجاعيد أخذت من صفحة وجهه مسرحاً تمارس عليه اعلان مرور الأيام.. نظر إليه باهتمام تساءل ماذا يريد من الدنيا؟ انها تكاد تلفظه.. مد له يده مرتعشة، أعطاه شيئا من التمر وبيد أكثر ارتعاشاً راح يفحص النقود.. ورقة.. ورقة، يده لا تكاد تقوى على قبض شيء البتة.. أعاد العد للمرة الثالثة شعر بالغثيان، حاول أن يتماسك، أعطى له ظهره ومشى ألقى نظرة خلفه.. المرأة العجوز لازالت تقلب في كوم الفجل والبقدونس والكرات.. علبة الصفيح لا تزال في مكانها.. طاف عليه شبح شقيقه أحس برغبة شديدة في البصاق عليه اللعنة يطرد أمه. وقف أمام ذلك البائع.. لازال بعض المتحلقين حوله يمارسون هوايتهم المحببة في النيل من الآخرين.. راق له النظر الى انفه الضخم الذي يغطي نصف مساحة وجهه كتم في نفسه ضحكة وهو يلقي نظرة سريعة على اذنيه وكل واحدة منهما تكاد تغطي نصف الخد.. دس في جيبه حبات من "الحبحبو" ارتطمت يده ببضعة قروش في جيبه.. تخطى أكثر من شخص.. الزحام يشتد عند مدخل الشارع.. عدة درجات تفصل بينه وبين ميدان باب السلام.. من فوق بدا له الميدان لا مكان فيه لقدم.. كم ود ان يصرخ في هذه الجموع قائلاً: إن أخاه طرد أمه من منزله ليبصق عليه كل واحد منهم.. كبت هذه الرغبة في نفسه اكتفى أن يمارس هذا بنفسه.. وقف أمام بائع الصحف تناول أحداها.. راح يقلب فيها نهره البائع.. قائلاً الفلوس أولاً لم يرد عليه أخوه طرد أمه من منزله والسبب "الفلوس" و.. "واصل" البائع زجره له.. لم يرد عليه، قذف بحبة "حبحبو" الى جوفه، قذف بالصحيفة، أخذ البائع في اطلاق عباراته المعتادة، لم يلتفت إليه.. ابتلعه الزحام وهو يدخل الى المسجد في سكون.