من هذا – الشباك – الذي نطل منه على ذكريات مضت وقد حرصت على أن تكون لأناس قد كانت لي معهم مواقف مباشرة لا عن شخصيات لها مكانتها الفكرية والأدبية ولكن لا يوجد لهم مواقف معي شخصياً، لهذا أسجل اعتذاري إن أنا لم أذكرهم. ثانياً هذه الذكريات - عن الذين رحلوا إلى بارئهم وليس عن من يعيشون معنا متعهم الله بالصحة والعافية وطولة العمر. كان ينطبق عليه ذلك القول: فلان سلطان مجلس .. نعم لقد كان واحداً من نوادر الأصوات التي تستحوذ على أي مجلس يكون فيه بتلك الموهبة الخالصة في حلاوة الصوت وذبذبات برداته .. بتلك العذوبة في التناول .. تراه يؤدي – الموال – ومن بعده يؤدي مقطعا من أغنية وعيناه تلاحظ الموجودين ليعرف مدى تجاوبهم .. من عدمه .. ذات يوم وكنت اجلس بجانبه همس في أذني:" شوف فلان كأنه – حجر – ,أي لا يتحرك كأنه لا يحس بما يسمع ويتجاوب معه .. إنه شديد الحساسية تجاه هؤلاء الذين لا يهزهم نغم أو يتفاعلون مع كلمة جميلة. كان صاحب صوت نادر عندما ينشد في مديح المصطفى صلوات الله عليه وسلامه فيمسك بقلوب مستمعيه وهو يقول في ذلك المجس: صفق القلب للحجاز وسارا شفه الوجد للحبيب فطارا واقتفت إثره الجسوم غراماً فسرى الركب في الرمال وسارا يا بقاع الحبيب أنت حياتي عدل الحب في الهوى أو حارا يا ديار الشفيع أنت نجاتي حدثيني عن الرسول جهارا فتسمع رد المستمعين آهات تنطلق منهم ذوباناً مرهفاً يأخذهم إلى مدارات غاية في الصفاء والبهاء النفسي شديد الالتصاق بما يسمع. كأنه يمتح من أعماق قلبه حباً وهو يترنم في نغم من الصبا أو الحجاز المخلوط بالجاركا في بساطة المتمكن من أدائه. اسمعه في موقع آخر عندما يقول: نوح الحمام على الغضون شجاني ورأى العذول صبابتي فبكاني أن الحمام ينوح من ألم النوى وأنا أنوح مخافة الرحمن أو اسمعه وهو يصدح بصوته الأخاذ في نغم ساحر في تموجاته الرقيقة كأنه يمثل ما يقول فتشعر أنت كمتلقي برهافة ما ينشده. وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي وكم يسر أتى من بعد عسر وفرج لوعة القلب الشقي وكم أمر يساء به صباحاً وتدركه المسرة بالعشي إذا ضاقت بك الأسباب يوماً فثق بالواحد الفرد العلي توسل بالنبي فكل عبد يغاث إذا توسل بالنبي لا أنسى قبل وفاته,رحمه الله, أن كنت وإياه ومعنا فنان الكمان حمزة شحاتة,رحمه الله, في رحلة إلى القاهرة على الخطوط المصرية عندما حلقت الطائرة في سماء جدة فراح يصدح في لحظة ارتياح نفسي وحمزة بجانبه يداعب الكمان فراح ركاب الطائرة وجلهم مصريين كانوا كالمأخوذين بذلك النغم يشاركونه حتى أن أتاني المضيف طالباً مني اسكاته لكي يقدموا وجبة الطعام التي رفض الركاب لها إلى أن شارفت الرحلة على الهبوط في مطار القاهرة. عندما ارتفع صوته العذب: على بلد المحبوب وديني زاد وجدي والبعد كاويني يا حبيبي ده انا قلبي معاك طول ليلي سهران وياك تتمنى عيني رؤياك أشكي لك وأنت تواسيني يا هنايا لما افرح بيك واتهنى بقربك وانا جيك وعيني تبقى في عينيك احكي لك وانت تراعيني يا مسافر على بحر النيل أنا ليّ في مصر خليل من حبه ما بنام الليل على بلد المحبوب وديني لقد كان واحداً من أعلام – المجس – والموال والأناشيد حتى اطلق عليه – بلبل الحجاز. إنه السيد حسين بن إدريس هاشم الذي وافاه الأجل المحتوم في عام 1398ه رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. علي محمد الحسون