ذاكرتنا تحمل الكثير مما خلفناه فيها من مواقف وترسبات عميقة منذ نشأتنا على هذه الأرض.. وحتى هذه اللحظات.. تلك الترسبات التي نحاول أن نخبئها عنا وعن الآخرين.. ونحاول جاهدين الهروب منها إلى أقصى حدود الكون.. هي مترسخة فينا وفي أذهاننا بشكل لا يصدق.. تلك الأشياء التي جمعناها في فترات الطفولة والصبا والشباب.. تلك العلاقات الجميلة والمثمرة والتجارب الأليمة التي عاشت في سنواتنا الأولى وعشنا معها.. ونحن نجهد بالمرور منها ومن دروبها الضيقة دون أي أثر لخدش أو علامة لمرض أو مجرد ذكرى صغيرة تحفر في الأذهان.. محاولين محو كل تلك الآثار وطمس معالمها من حياتنا الماضية.. ونسيانها قدر المستطاع .. لكننا مهما حاولنا ومهما جهدنا نعود لندرك أننا لسنا بقادرين على محو كل الدقائق والتجارب التي مرت بنا ومررنا بها خاصة في فترات الطفولة.. تلك التجارب التي تعود إلينا في لحظة من الزمن الحاضر لتعيد إلينا كل الهمسات وكل الدمدمات.. وكل الأوجاع التي تلافيناها.. وتلافينا ذكرها منذ سنين طويلة. كل واحد منا بداخله شيء ما يحاول نسيانه.. أو طمسه.. لأنه لا يزال يتداخل في حياته الحالية.. ويعوق الكثير من نموه النفسي والاجتماعي.. يعوق حتى علاقاته بالآخرين الذين يشكلون الجزء الأساسي من حياته وعالمه.. كل منا في حياته الماضية شيء ينغص عليه معيشته.. خاصة حين يطرأ شيء ما ليعيد بث ذلك المستور في الأعماق.. وليستخرج ذلك الطلسم الذي أخفيناه دهورًا حتى عن أعيننا.. وليعود من جديد يحرمنا لحظات النوم والراحة.. ويقلب علينا مواجعنا من جديد.. ويستعرض أحداثه الغامضة أمام أذهاننا لأيام متواصلة.. وربما أكثر من ذلك. إنه الماضي الذي يسحقنا أحيانًا .. نرى الحياة وقد تدفقت علينا بحنانها وحبها الذي ينتهي.. نرى البراءة التي كانت تحتوينا وتسكن في أعماقنا وقد انقشعت اليوم وأصبحت مجرد كلمات على ورق.. أو ربما كلمات في مهب الريح .. لا شيء يبقى كما هو.. لكننا نود لو نستطيع أن نحول تلك اللحظات القاسية إلى حياة مفعمة بالمرح والحب.. نود لو أن الذاكرة تعيد الابتسامة الجميلة إلى شفاهنا.. وإشراقة الصباح في عيوننا بدلاً من ذلك الغمام الذي يسيطر على أذهاننا وعقولنا. من منا لا يريد أن يرى الطهارة والبراءة في حياته متدفقة كمياه الشلالات العالية.. لا تهدأ يومًا.. ولا تجف.. ولا تخبو طاقتها الطبيعية السمحة والكريمة ؟. من منا لا يتمنى أن يعيد الطفل الذي كان بداخله إلى خارج أعماقه.. ليلهو معه.. وليعيد معه سيرة الطفولة والحياة الناصعة البياض..؟ حياة الفطرة الأولى الصادقة.. تلك التي لا تعرف الغش ولا النفاق ولا تقبيل الأيادي والأقدام .. ولا تعرف الخداع والمجاملة وتحيات المكاتب المصطنعة.. والابتسامات الملونة بالطباشير والألوان الصناعية.. والكلمات المدبلجة والمقتطفة من مسلسلات الليلة الفائتة..والوجوه الأخرى المخبأة خلف الأقنعة والمصنعة خصيصًا لتلك الغايات. ذاكرتنا وتلك الحكايات المخبأة فيها.. والمصبوغة بألوان الطفولة والحب.. تتمنى أن تعود إلى الأيام الخاوية.. تتمنى أن تعود لها تلك الأحلام وضحكات النوارس ووشوشة البحر للأمواج.. وصخب الأشرعة وشباك الصيادين.. وقلاع الرمل .. ولكن.. ما كل ما نتمناه ندركه ونحصل عليه.. إنها الحياة.. وذلك هو دورها معنا ومع كل المخلوقات من أمثالنا.