عمل الكاتبة والصحافية اللبنانية بسمة الخطيب الذي جاء بعنوان "شرفة بعيدة...تنتظر" يصعب ان يصنف ويوضع في مجال واحد من انماط الكتابة المألوفة تقليديا. الا انه وفقا لمعايير ومصطلحات اصبحت تعتمد اخيرا يدخل في مجال ما اطلق عليه تعبير "النص" المفتوح الذي هو في النتيجة اقرب الى مظلة ترتفع فوق انواع مختلفة من الكتابة تكاد تكون دون حدود صارمة. ففي كتاب بسمة الخطيب نصوص هي نتيجة تبادل ادوار حينا ومجاورة وثيقة تتلاصق فيها الحدود او تزول كليا في عملية الصياغة الفنية التي يتحول فيها النص الواحد من قصصي الى شعري.. الى خاطرة فلسفية او الى نظرة تطل علينا من خلال عين الطفولة التي ترى حياة في الجماد والحيوان او من خلال نظرة فلسفية "احيائية" ترى الكائنات واحدا في وحدة حياة كاملة شاملة. وكل ذلك يجري سط ضباب حلمي موح. لكن عالم الحلم ليس شيئا زائدا مضافا بل هو من صلب الرؤية كلها ويكاد يكون نسغ الحياة الذي يدب فيها. لا بد هنا من شيء من التساؤل: هل كل نص ورد عند بسمة الخطيب هو قصة؟ وربما اختلفت النظرة الى هذه النصوص باختلاف القارىء او فلنقل هنا باختلاف القارىء "الناقد". وقد حمل غلاف الكتاب كلمات لاسماء كبيرة في عالم الادب. فالناقد والباحث المصري الدكتور جابر عصفور اختصر نظرته الى العمل بقوله "المسافة قصيرة جدا بين قصة بسمة الخطيب والقصيدة. فحسها المرهف وكتابتها التي تبدو كما لو كانت مقطوعات ايقاعية بطريقتها الفريدة تدخلني في عالم الشعر وتضعني في حالة من الاكتفاء الذاتي في عملية التلقي." الناقدة اللبناينة الدكتورة يمنى العيد ترى ان "لبسمة الخطيب مقدرة فنية على حبك نص قصير لعالم واسع من دون ان يكون ذلك على حساب ثراء عالم القصة وتماسكه." اما الشاعر اللبناني عباس بيضون فوصف نصوص بسمة الخطيب بقوله " تفاصيل بسيطة تنقط مناخا بين الغموض الشفاف واللهفة المكبوتة. تفاصيل تتحول الى طقوس حياة او تمائم شخصية. يتفتح الكلام في كتمان وخفاء ولكن في حياكة كتابية تتردد كنفس داخلي.. كدفق تحت الارض." جاء عمل بسمة الخطيب في 80 صفحة صغيرة القطع توزعت على 19 عنوانا. صدر الكتاب عن دار الاداب بغلاف من تصميم نجاح طاهر. النصوص المتنوعة تبدأ بما يبدو فكرة واضحة نوعا ما بعيدة عن الضبابية بل تكاد تكون تقريرية في معظمها. وقد يكون ما ادرج تحت عنوان "يقظة الميت" النموذج القصصي الاكمل من حيث كونه يحمل معظم سمات نتاج بسمة الخطيب وخصاصه.. ولعله النموذج "الاجمل" فنيا. نجد انفسنا هنا امام مشاهد منها ما هو مألوف في الحياة اليومية وأفكار قديمة وحديثة ونظريات في الموت والحياة وأجواء فيها من بعض الاعمال السينمائية والتلفزيونية. وقد نسجت بسمة الخطيب كل ذلك مع رؤيتها الخاصة بخيوط من اجواء الاحلام. قالت في تصوير شديد الايحاء يكاد ينقل "لون" الجو الذي تصفه " كانوا جالسين بثياب الحداد. النساء في مجلس والرجال في مجلس مجاور. جميعهم من اقاربي ومعارفي. وجميعهم -وهو المخيف- متوفون! "فوق كراس خيزران عتيقة. كانوا يبكون بهدوء ورزانة. بعضهم يتمايل مع ترتيل يأتي من مكان مجهول وآخرون يمسكون مناديل ورقية يمسحون بها حافات عيونهم وفتحات انوفهم... كان صوت المقرىء يخترق صمت الليل وبقي يتردد في رأسي بينما اغسل وجهي وأنظف اسناني." اضافت متنقلة بين عالم الحلم وعالم اليقظة..وأحلام اليقظة "بدت الطريق الى العمل مختلفة. المقود و"الكيلومتراج" والسيارات العابرة... رأيت وجوههم الحزينة معلقة على الزجاج الامامي. رحت ابحث عن سبب هذا المنام... راهنت على انني قد ارى المنام ثانية وأفهم سره. لكنني صرت ارى في اليقظة مشاهد منه تتكرر بالحرفية نفسها مع مرور بطيء لادق التفصيلات..." تحفل القصة بأجواء تتداخل فيها -بوعي وما يشبه اللاوعي- الذكريات والأحلام وقصة صبي احبها في ايام الطفولة واختفى طويلا ونسته. وقد مات دون ان تعلم لكنه عاد يزورها في الحلم لتبحث في عالم اليقظة وتكتشف موته. تبدو لنا البطلة هنا شبيهة بمن يوصفون هذه الايام بأنهم "يرون" او يبصرون وأن لهم قدرة على رؤية من رحلوا عن الحياة. ومن ابرز النصوص القصصية واحد عنوانه "القاتل". وقد يجد القاريء نفسه عند قراءة هذه القصة يعود معها الى اجواء تتداخل فيها اسطورة " بيجماليون " والمراوحة فيها بين حالي الفتاة الحية والتمثال الرخامي.. وإلى عمل اوسكار وايلد القصصي الخيالي الرمزي "صورة دوريان جراي" وإلى السحر الاسود الافريقي مثلا اي "الفودو" او "الجوجو" وما نشهد كثيرا منه على الشاشات الكبيرة والصغيرة. قصة حب منذ الطفولة.. الا انها رفضته. كان نحاتا انجز لها تمثالا بدت فيه "اجمل ما تكون". وبسبب غضبه ونقمته "احضر اصغر سكين مطبخ وغرزه في قلب التمثال." وتوجه الى المدينة. وصباح رحيله "استيقظت الفتاة على ألم خفيف في صدرها... قال اقاربها ان الارواح تسكنها وتعذبها وقال الاطباء انها تتوهم. حاول احد العرافين استخراج الدماء الشيطانية من يافوخها.. .لكن كل ذلك لم يجد." وحين عاد النحات من المدينة واجهه خبر موتها "دخل كالمجنون الى غرفته .. ازاح الغطاء عن التمثال فوجد خيطا من دماء قاتمة يسيل من السكين."