من هذا – الشباك – الذي نطل منه على ذكريات مضت وقد حرصت على أن تكون لأناس قد كانت لي معهم مواقف مباشرة لا عن شخصيات لها مكانتها الفكرية والأدبية ولكن لا يوجد لهم مواقف معي شخصياً، لهذا أسجل اعتذاري إن أنا لم أذكرهم. ثانياً هذه الذكريات - عن الذين رحلوا إلى بارئهم وليس عن من يعيشون معنا متعهم الله بالصحة والعافية وطولة العمر. =1= كنت أراه في سمته الواضح وفي هدوء المؤمن الذي لا يعطي للحياة زخرفها اللاهث خلفه الكثيرون. كان في شيبته وقار الباحث عن الهدوء في تلابيب النفس المطمئنة. كان واحداً من أولئك الرجال الصامتين في ضجيج الكلام، فهم الذين يعطون الصمت معنى كل كلام، يذهب مع كل فرض إلى ذلك المسجد الذي أسس على التقوى.. وهو يخطو خطواته الوئيدة يلمح على جانب المسجد ذلك الرجل المسكين الجالس القرفصاء فيهمس في أذن أحد أبنائه طالباً منه مساعدته.. يدخل إلى المسجد في خشوع المؤمن. =2= كان له حضوره – الطاغي – في مجلسه بعد عصر كل يوم في – بستانه – يحيط به ثلة من الأصدقاء ويدور درس في الحديث النبوي الشريف أو في عرض لقصيدة شعرية لها مدلولها الأدبي الواضح أو مناقشة إحدى قضايا المجتمع – الزراعي – التي يجد كثير من المزارعين الحل – لمشاكلهم عنده حيث يعطيهم كل اهتمامه وكل رعايته فهم ينظرون إليه كأب لهم وهو ينظر إليهم كاخوة له، لا يتعامل بفوقية أبداً مهما كان من أمامه لا يملك من حطام الدنيا شيئاً. =3= كان رجلاً له "كريزمته" الخاصة التي يمتاز بها بين كل الحضور.. في مجلسه ذاك الذي تتلاقح فيه كثير من الأفكار وكثير من الرؤى في شتى مناحي الحياة .. له طريقته المثلى في تنشئة أبنائه كان لا يرفع صوته على أحد منهم فقد كان كافياً أن ينظر إلى أحدهم فتراه أمامه ماثلاً في خضوع الابن البار الذي لا يرفع نظره إلى صفحة وجهه احتراماً وتقديراً. =4= كم من قصة "لمزارعين" كان فارس حلها .. بكل ما يملك من وجاهة.. وقدرة على فعل الخير، ذات يوم قال أحد "المزارعين" الذي كان – فالحاً – لبستان- وقع بينه وبين صاحب البستان مشكلة حيث أراد صاحب البستان أن يخرج – الفلاح – من ذلك البستان وهو الذي – فلحه – وحوله من أرض بور إلى حديقة غناء .. فزان في عين صاحبه وأراد إخراجه. ذهب إلى ذلك – الشيخ – المهيب فما كان من – الشيخ – بما له من دالة على من يخاطبه استطاع أن يمنع ذلك الجور وقال لصاحب البستان عليك أن تدفع له كل ما صرفه في خدمة هذه الأرض وحولها من أرض جرداء إلى واحة خضراء وعليك أن تعطيه زيادة على ذلك عن صبره الطويل. وقد كان أن راجع صاحب البستان موقفه مع – الفلاح – وظل يفلح بستانه إلى أن توفاه الله. هذه قصة قديمة لها أكثر من ستين عاماً وكان الشيخ في عز شبابه وقوته الجسمانية لم يعرف عنه دخوله في مناكفة مع آخر أو خصام مع متخاصم .. وكان يطبق تلك الآية الكريمة "واجعلوا بيوتكم قبلة" .. حيث جعل من بستانه قبلة لكل وارد إلى البلد الطاهر. =5= كان له من الحضور الفاعل ما يجعله من أصحاب تلك الأفعال التي لها فعلها في حياة الآخرين.. فهو من أولئك الرجال العافين في القول .. الأندياء الكف – الأسخياء النفس .. الذين لا تسمع لهم صوتاً، هم الهامسون في أحاديثهم همس الحيين لا همس الارتجاف، لديهم سطوة الحق لا جرأة العنف. إنه من هؤلاء بل يعطيك كأنك أنت الذي تعطيه.. إنه من أولئك الذين يذهبون في صدقاتهم إلى أبعد حدود. الصدق في القول والإيثار إنه ذلك الرجل المؤمن الذي يعطي من نفسه سخاءها.. إنه شبيه بأولئك الأوائل الذين يعطون للأشياء قيمتها ويتعاملون معها بأخلاقيات أولئك الخلص من الرجال الذين يتحسسون بذور الخير فيسقونها من ذلك الرواء الذي هو منبع حيواتهم وصيرورة تحركاتهم التي جبلوا عليها. لقد كان ذلك الشيخ الوقور عبدالحميد عباس – رحمه الله – أحد شخصيات البلد الطيب .. الذين يعطون من نفوسهم كل ذوبها وحدبها للآخرين رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.