ومع ذلك فإن كل الدراسات والتوصيات تؤكد على ضرورة التعريب وأهميته. ووجود بعض العقبات في تحرير المصطلحات، أو اختلاف وجهات النظر بين المجامع، أو لجان التعريب يجب أن لا يقف حجر عثرة في تأخير عملية التعريب. مختلف اللغات الحية عندما تحاول النقل والترجمة، تواجه عقبات، وبعض الإشكالات، ولكن مثل هذه الأمور والعقبات لم تصدّ أو تؤخر تلك الأمم من الاعتماد على لغتها، وجعل تلك اللغات بعد فترة قصيرة سائدة في كل مجالات الحياة، في الطب والهندسة، وتقنيات المعلومات، متجاوزة كل العقبات. رغم أن بعض هذه اللغات ليست لها ذلك الرصيد اللغوي والحضاري الذي تمتلكه اللغة العربية..والأمثلة على ذلك كثيرة.. يقول العالم اللغوي (إدوارد سابير): هناك خمس لغات فقط تشكل أهمية كبرى لنقل الحضارة هي: اللغة الصينية القديمة والسنسكريتية، والعربية، والإغريقية، واللاتينية. فهناك دول سعت ونجحت في جعل لغتها القومية هي اللغة السائدة في التعليم ونقل العلوم والمعارف في كل مؤسساتها العلمية والإدارية، والإعلامية، هذا ما نجده في الكوريتين، وإسرائيل، وماليزيا، وفيتنام... الخ. ولا شك أن عملية التعريب سوف تكون إثراء للغة العربية، بما يدخلها من مصطلحات ومفردات، وأساليب جديدة، في حين أن تهميشها سوف يؤدي إلى إفقارها، وخروجها من ميدان الحياة تدريجيًا. وكما يقول أحد الباحثين: (إن التعليم باللغة الأجنبية هو حكم بالموت على اللغة العربية، وإن الأمة التي تهمل لغتها تحتقر ذاتها، وتبيد ثقافتها، وتغدو تبعًا للآخرين..وقد أثبتت الكثير من الدراسات والتجارب أن الإنسان يكون أكثر قدرة على الإبداع والاستيعاب للمعرفة عن طريق لغته الأم. وأن التفكير والتصوّرات تكون وليدة اللغة الأصلية، ومن ثم يتم التعبير باللغة الأخرى التي يتعامل معها هذا الشخص. وإذا نظرنا للقضية من المنظور القومي، والحضاري، والثقافي، فإننا سوف نجد أن إهمال العربية، وإضعافها، أو التفريط بها، هو تفريط بالهوية العربية، وتراث الأمة، وتاريخها لأن اللغة العربية هي السياج الحافظ للثقافة، والهوية، وتمثل العربية روح الأمة وكيانها، فهي جزء من الأمن القومي الذي لا يجوز التهاون في شأنه. يقول همبلت: (إن لسان أمة جزء من عقليتها وأن لغة شعب، ما هي إلا روحه، كما أن روح الشعب لغته). إن اللغة العربية ليست وسيلة تواصل ونقل للمعرفة فحسب، بل هي أكثر من ذلك، هي أهم عناصر مقوّمات الأمة هي ثقافتها وتراثها، ووشائج الاتصال والتواصل في المشاعر والعواطف بين أبناء الأمة. واللغة والهوية عنصران متلازمان، فاللغة مستودع تراث الأمة وهو الذي يشكل هويتها وقيمها وتقاليدها، وهي وعاء الثقافة. وكما يرى جون جوزيف: (أن ظاهرة الهوية في عمومها يمكن أن تفهم باعتبارها ظاهرة لغوية). فاللغة عنصر أساس معبر عن الذات ومرتبط بهذه الذات، ومعبر عن ماهيتها. والحقيقة أن الحديث عن الهوية وعلاقتها باللغة حديث أفاض فيه الكثيرون سواء في الدراسات العربية أو غيرها. وإذا كان للغة هذه المكانة وهذا الدور في كيان الأمة ووجودها، فلماذا يتم إغفالها، وتهميشها، والعزوف عن دعمها، والنهوض بها. رغم أن كل الدساتير في الدول العربية، تنصّ على اعتبارها اللغة الرسمية. رسمية أين؟ وتكاد معظم المؤسسات، والوزارات، والجامعات لا تستخدمها، ومعظم وسائل الإعلام تستخدم اللهجات المحليّة. إن التعريب الشامل يصبح واجبًا وطنيًا وقوميًا في ظل التحديات التي تواجه الأمة، في لغتها، وتراثها، وثقافتها، ويعرّض هويتها للتفسّخ والتشويه. إن قضية التعريب وأهميتها، في ظل التحديات الراهنة تفرض على أصحاب الرأي والقرار أن يعتبروها من أولويات الأمن القومي، فنحن أمام منعطف يقودنا إما إلى التعريب، أو إلى التغريب، وربما يكون الثاني إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه.. والغريب في الأمر أن يتردد دائمًا على ألسنة المسؤولين مقولة الأمن القومي، والأمن الغذائي، والأمن المائي.. الخ. دون أن يتجسّد لديهم مدلول المكوّن الأساس للعنصر القومي، وهي اللغة العربية لأنها أهم مقوّماته.