ما من رمية زهر تستطيع أن تلغي المصادفة . هذه العبارة منسوبة إلى الشاعر بول فاليري . المصادفة التي يعنيها الشاعر قد تكون تعبيراً عن الحيرة والبلبلة التي تواجه من يكتب، إذا كان شاعراً خاصة، لحظة الكتابة، لأن المبدع حين يخلق قصيدته مثلاً أو لوحته لا يستطيع أن يتنبأ كيف سينتهي العمل الذي بدأه . صحيح أنه يبدأ بفكرة ما لمعت في ذهنه، أشبه بالتخطيط الأولي الذي أقامه ذهنياً قبل الشروع في عمله، لكن كثيراً ما يكشف العمل نفسه خلال شغل المبدع عليه عن مفاجآت ومنعطفات لم يكن هذا المبدع قد أدركها لحظة البدء .فاليري نفسه هو القائل إن هناك أبياتاً من الشعر "يجدها" الإنسان، وهناك أبيات أخرى "يصنعها صنعاً" . وبوسع المتلقي الذواقة، قارئاً كان للشعر ومشاهداً للوحة التشكيلية أم مصغياً للموسيقا أن يدرك الفرق بين الأمرين . كان القدماء يعتقدون أن الشاعر مثلاً ليس سوى أداة أو وسيلة تنطق بلسانه قوة إلهية خفية، أمر ما لا يدرك يكمن في إبداعه حتى من قبل نفسه على النحو الذي أشار إليه الدكتور عبدالغفار مكاوي وهو يستعرض تجربة الشعر الحديث في إحدى دراساته القيمة . هوميروس يبدأ إلياذته بأن يطلب من آلهة الفن أن تنبئه عن غضبه أخيل . هذه النظرة المحاطة بهالة الأسطورة وهيبتها ليست علمية تماماً، لكن عدم الأخذ بها لا يسقط عن الفن غموضه الذي يبرر البهجة التي تتغلغل في أرواحنا حين ننفعل بقصيدة عذبة أو بلوحة أخاذة أو بموسيقا ساحرة . وهي انفعالات قد لا يعيها المبدع تماماً، لأنه يحمل بين ثنايا روحه درجة من المباغتة لكون العمل الذي أبدعه حمل معه كل هذه الشحنة التي كانت تفيض في داخله . لكنه لا يعرف كيف وجدت تعبيرها المدهش في القصيدة أو في اللوحة أو في المقطوعة الموسيقية، التي تنقل إلينا الشعور بأن كل حواس الفنان كانت يقظة، للدرجة التي تنطبق عليها الحكمة اليابانية القائلة إن "من يرهف السمع يسمع أصواتاً لا صوت لها" .وهي حكمة قد تسعفنا في ولوج هذا المقطع الشعري العذب: "من يبكي هناك، غير الريح البسيطة، في هذه الساعة الوحيدة ذات الجواهر القصية؟ لكن من يبكي، قريباً كل القرب مني في لحظة البكاء" .