قبل يومين كنت أعبر شارع المكرونة في جدة قاصداً شارع الأمير محمد بن عبدالعزيز (التحلية) لأعبر منه الى نقطة أخرى في غربه، غير أن (تلبك) الحركة المرورية في التقاطع أمامي جعلني أفكر في اختصار الطريق بالدخول الى عمق الحي (حي العزيزية) وهناك وقعت في شرّ أعمالي حيث ضيق الشوارع، التي لا تكاد تتسع لسيارتين ذاهبة وقادمة، أزقة منحنية مليئة بالحفر، ومساكن متواضعة، وسحنات غريبة لسكان وافدين، ونظافة رديئة، وشوارع غاية في التواضع تملأ من يسير فيها بالاكتئاب (لاحظ أنك الآن في وسط جدة ولست في الحرازات شرقها ولا في عسفان شمالها ولا في الخمرة جنوبها). وتصادف في ذات اليوم أن قرأت في الصحف عن الحفل الذي ستقيمه امانة جدة في نفس اليوم ابتهاجاً بافتتاح الكورنيش الأوسط بعد اغلاق للمكان استمر شهوراً لقصد اعادة تأهيله، ليكون كما قيل "تحفة على البحر" وللمعلومة فتلك "التحفة" هي في النهاية الطرفية الغربية لشارع التحلية، الذي كنت قبل قليل أغوص في كآبة الوجه الخلفي له. مفارقة غريبة ولاشك في أن نحتفي في "مكان ما" من جدة بجماليات وتنظيم، وأن نعيش القرف في "عدة أماكن" أخرى من هذه المدينة البحرية التي كان يمكن لها ان تصل الى مستويات أفضل وأجمل منذ سنوات سابقة، لكن هذا هو الواقع، ودار في ذهني سؤال حائر، أين كان أمناء جدة السابقون واللاحقون عن البناء العشوائي الذي شوه المدينة وحال بينها وبين ان تكون كلها "تحفة"؟. ان كل أمين من أمناء جدة القدامى وحتى الحالي هم مسؤولون عن تردي الجمال في الكثير من مفاصل جسدها، ومسؤولية الخلل والتراخي والقضايا لا تسقط بالتقادم كما هو معلوم، ولذلك فإن كل مسؤول عن أمانة جدة بل وكل المساعدين والتنفيذيين هم مسؤولون عن العشوائيات وسوء التخطيط وتأخر تنفيذ الصرف الصحي وبناء المدارس الحكومية في الأحياء وعدم اقامة الحدائق والميادين العامة...الخ. ونحن وان كنا قد قدمنا بعض المسؤولين للمحاكمة في تداعيات كارثة سيول جدة رغم تحفظي على طول مدة التقاضي والاحكام ومحدودية العدد المتهم، الا انها كانت خطوة جيدة، اشعرتنا أخيراً بأن كل مذنب في حق التنمية الوطنية وفي رعاية المال لابد وان يقف يوماً بين يدي القضاء ليقول فيه كلمته. أقول عندما قدمنا متهمي سيول جدة للمحكامات فان ذلك لا يكفي بل لابد وان يمثل امام القضاء آخرون غيرهم، ممن تهاونوا في الكثير من النواحي التنظيمية والانشائية والتطويرية والتنموية لمدينة جدة، وكذلك مدننا الأخرى، فالعمارة التي نجدها تتقدم دون غيرها إلى الشارع - أي الشارع- إنما كانت كذلك لأن مسؤولا غض الطرف عن مالكها حتى صارت نشازاً في امتداد الشارع، والحديقة التي تم اختفاؤها لم يتم الغاؤها الاّ بتواطئ من مسؤول، والشارع الذي تتم سفلتته ثم بعد شهور قليلة يتقشر الاسفلت، لم يكن ذلك الاّ بعد أن استلمه مسؤول ووافق على أنه مرفق المواصفات.. الخ. ماذنب الاجيال الجديدة عندما تكبر وتجد أنها أمام مدينة مهلهلة، في وقت كان يتوجب الاّ يتم وضع طوبة واحدة الاّ برأي هندسي تنظيمي جيد، وماذنب الاجيال القادمة عندما تجد نفسها بحاجة إلى اقتلاع حي كامل هو عبارة عن مدينة مصغرة من مكانه لأنه عشوائي وما عاد يصلح للحياة، ويتم انفاق المليارات على اقتلاع تلك العشوائيات التي صارت مأوى للجريمة والخراب، بسبب تهاون مسؤولين قبل 20 أو 30 عاماً، وغفلتهم، ولن نقول أكثر .. فلماذا يكون اولئك في مأمن من العقوبة جراء ما اقترفته أيديهم؟ هل لدينا فعلاً العزيمة والجرأة لأن نبدأ سلسلة من المحاكمات وتفتيش الدفاتر القديمة، لنقول للمحسن أحسنت، وللمسيء اسئت وتعال إلى المحكمة، هنا بالضبط سيعرف المسؤول الحالي والقادم أيضاً أنه سيكون تحت طائلة السؤال والمحاكمة في أية لحظة، وأن عليه أن يعمل بأمانة وشرف وحذاقة، والاّ فليدع كرسيه لغيره من النبهاء، وما أكثرهم؟.