كل عمل أو قول لا يحقق نتائج عملية تسهم في سبيل نهضة الأمة واستعادة دورها الحضاري فهو فاقد للفاعلية ويدخل في باب اللغو والجدل الذي لا طائل منه.أستطيع أن أدلل على مبدأ الفاعلية من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه حين أخبره النبي بأن كل من مات وهو يشهد أنه لا إله إلا الله يدخل الجنة، فسأله معاذ هل يخبر الناس بذلك فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: دعهم يعملوا.في هذا الحديث تتضح لنا فكرة الفاعلية بشكل جلي، فهذا الحديث يحمل بشارةً عظيمةً وهي الجنة إلا أنه رغم ذلك وفي بعض الظروف فإنه حديث غير فاعل اجتماعياً و لربما يبعث في النفوس الكسل والتراخي, لذلك لم يود النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتشر هذا الحديث بين الناس. لقد سمعت أحد الدعاة الأفاضل وهو يحدث الناس عن الجنة وقصورها وحور عينها، ويسرد قصصاً تسمو بالروح إلى عنان السماء وتزيد المؤمن شوقاً إلى لقاء الله حتى يصير حاله كحال عمير بن حمام وهو يود ألا يطول عمره حتى يأكل التمرات. لكنني سألت نفسي: هل يكفي أن نذكر هذه القصص المشوقة وحسب؟؟وما قيمة أن نشحن الناس بكل هذه الطاقة الروحية ثم لا نبصرهم بسبيل إلى توظيفها في عمل إيجابي فعال يعود بالنفع على المجتمع والأمة؟. إن وجود هذه الأشواق الروحية العظيمة في نفوس الشباب مع انعدام الوعي والفقه ربما يعود بآثار عكسية على الأمة، وهذا ما نراه فعلاً في الصومال والعراق وأخواتهما، فتجد شباباً لا تنقصهم الحماسة الدينية والرغبة الصادقة في الجهاد ولكن ينقصهم ترشيد هذا الجهاد .فهم يتحرقون شوقاً للجنة ونعيمها، ويريدون نيلها بأقصر طريق، وفي ظل غياب الفقه يصبح الموت هدفاً لذاته دون إفادة الأمة في شيء فيبحثون عن أول سوق أو متجر أو مركز شرطة ليفجروا أنفسهم تعجلاً للجنة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً..إن الحديث عن الجنة حتى يكون فاعلاً لا مدمراً فإنه يجب أن يأتي في سياق فاعل،وهذا هو منهج القرآن الكريم فلا تجد آيةً تتحدث عن الجنة إلا وتربط هذا الحديث بذكر عدد من الأعمال الصالحة.إن الفاعلية تعني أن نوجه هذه العواطف المتقدة في نفوس الشباب في عمل إيجابي، فيثمر الإيمان بالآخرة صلاحاً في الدنيا، وما أجمل الكلمة التي قالها الشهيد إبراهيم المقادمة رحمه الله: إننا بحاجة إلى السياسي الذي يعيش بروح الإستشهادي..فالسياسي وحده ربما يغلبه الهوى ويسلك طريق الفساد والمصالح الشخصية، والإستشهادي وحده يموت دون أن ينتفع الناس به.لكن المزج بينهما ينتج عملاً مبدعاً متقناً.. والقرآن الكريم بأكمله هو كتاب يدعو للفاعليةفهو كتاب عملي يذم الانشغال بالقضايا الجدلية التي لا أثر لها في أرض الواقع "فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً"، وحين كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في قضايا لا يبنى عليها عمل كان القرآن يتجاهل الإجابة التي يتوقعونها ويجيب في اتجاه آخر أكثر نفعاً وعمليةً وهو ما يسمى بأسلوب الحكيم.من ذلك قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ". فالسؤال كان ماذا ينفقون لكن القرآن أجاب عن مواطن الإنفاق، لأنه لا قيمة للنفقات إن لم توجه إلى وجهتها الصحيحة، ومن معالم فاعلية القرآن أسلوب التجريد وهو من الخصائص العظيمة التي تميزه عن غيره من الكتب، فهو كتاب غير محشو بالتفاصيل الظرفية ولكنه يركز دائماً على موطن العبرة والاتعاظ، والتركيز على موطن العبرة والعمل هو بالضبط فكرة الفاعلية. لكن المسلمين يسيرون في اتجاه معاكس تماماً لمراد القرآن فيتركون الدروس العملية التي يتضمنها القرآن ويركزون جهدهم في الجدل في اسم الشخص أو القرية أو التاريخ الذي يتحدث عنه القرآن، وفي ذلك تجريد للقرآن من فاعليته، فالقرآن يتعمد تجاهل هذه التفاصيل حتى يقدم لنا منهجاً عاماً يصلح للتطبيق في كل الحالات والأوقات.