ألقت الأحداث الأخيرة التي وقعت في تونس بظلالها على الشارع العربي، فأصبح مافعله البعض من الإقدام على إحراق نفسه سنة حسنة لبعض المسلمين للقيام بتكرار هذا الفعل البشع واستحسانه كما حصل في بعض الدول العربية، بل الأمر تعدى ذلك وأكثر إلى الانزلاق في مصادمات عنيفة، ومظاهرات سلبية أثارت الفوضى والرعب، أزهقت الأرواح وأتلفت الأموال كما نراه الآن واقعاً في أرض الكنانة: جمهورية مصر العربية. والواجب علينا كمسلمين عند وقوع الاضطراب والفتن والاختلاف، وتعقد الحياة الفردية أو الاجتماعية أو السياسية خصوصاً، الرجوع إلى كتاب الله تعالى وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). وقد جاءت الشريعة الإسلامية الصالحة في كل زمان ومكان، وفي طور معالجاتها لمشاكل الحياة الإنسانية وما يستجد في مواطنها من أزمات ومحن، جاءت لتقرر أمورا مهمة، غفل أو تغافل البعض عن التذكير بها والإشارة إليها، خصوصاً في مثل تلك الظروف الحالكة التي تمر بها أمتنا الإسلامية والعربية، منها: الأمر الأول: إن الشريعة الإسلامية السمحة جاءت لتؤكد على حفظ الضروريات الخمس، التي منها (حفظ النفس)، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته في خطبته المشهورة في حجة الوداع بالقيام بتلك الضروريات ورعايتها: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا). فحفظ الأنفس المعصومة. أياً كانت أعراقها وأديانها وجنسياتها. من الإضرار بها والاعتداء عليها. سواء من اعتداء المرء على نفسه أو على غيره من أوجب الواجبات في الشريعة الإسلامية. وإن من أعظم صور الاعتداء على النفس ومما حرمه الإسلام، اعتداء المرء على نفسه، وإزهاق روحه، بدعوى التغيير أو التعبير عن صورة من صور الغضب والانتقام، أو للتخلص من معاناة إنسانية ضربها الجوع والفقر والعوز حتى رأت في الحياة بؤساً لايمكن الخلاص منه إلا بالانتحار وقتل النفس وإزهاقها، فغدت النفوس والأرواح في نظرهم حمى مستباحاً، وملكاً خاصاً، تجيز لهم التصرف بها كيفما شاؤوا، مادام الأمر في ختام المطاف سيحقق نصراً للإسلام أو تطبيقاً للديمقراطية والحرية ومحاربة مظاهر الفساد والاستبداد. وقتل الإنسان نفسه أو ما يسمى (الانتحار) تحت أي ذريعة أو أي مبرر، محرم شرعاً بنص القرآن والسنة، ومن أكبر الكبائر، قال تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً)، أما السنة فقد حفلت بنصوص عديدة توضح عظم هذا الجرم وشناعته ومصير فاعله في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة » رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً» رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات. قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة» رواه البخاري ومسلم؛ وعن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: « يا عمرو صَلَّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ»! قال: قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلكَ، فذكرت قول الله عز وجل ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. رواه أحمد وأبو داود. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على المنتحر، بياناً لشناعة هذا الفعل الذي أقدم عليه هذا القاتل لنفسه، وزجراً لغيره من الإقدام على جرمه؛ وقد عدَّ أهل العلم قتل الإنسان نفسه من أكبر الكبائر، وأورد الحافظ الذهبي في كتابه الكبائر (قتل الإنسان نفسه) في الكبيرة التاسعة والعشرين من أصل سبعين. وذهب بعض أهل العلم أن المنتحر فاسق وباغ على نفسه، وحكمه حكم البغاة فلا يغسل ولا يصلى عليه لعظم ما اقترف. إن الإقدام على هذا الجرم والمنكر العظيم لا يجوز السكوت عنه بحال من الأحوال مهما كان المسوغ له، سواء كان ظلماً أو قهراً أو فقراً أو مرضاً أو ما يدعيه البعض: جهاداً ونيلاً من العدو. سئل الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله ما نصه: إذا انتحر شخص لظروف حياتية وما يلاقيه من ضيق في المعيشة والإنفاق على أسرته، هل هذا يعني أنه سوف يخلد في جهنم؟ فأجاب: (الانتحار منكر عظيم، وكبيرة من كبائر الذنوب، لا يجوز للمسلم أن ينتحر، يقول الله عز وجل:..(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا )، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: « من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة »، فالواجب على المؤمن التصبر والتحمل إذا حصل عليه نكبة ومشقة في دنياه، أن لا يعجل في قتل نفسه، بل يحذر ذلك ويتقي الله ويتصبر ويأخذ بالأسباب، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً. وإذا قتل نفسه فقد تعرض لغضب الله وعقابه، وهو تحت مشيئة الله). وقال أيضاً رحمه الله: (ليس لمسلم أن ينتحر ولا لمسلمة أن تنتحر لضرٍ أصابهم من مرض أو من جراحات أو مضايقات أو فقر أو ما أشبه ذلك، بل الواجب الصبر ولا بأس بهذا الدعاء، أن يقول الإنسان في صلاته أو غيرها: « اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي »، وهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم). بل حتى لو كان المسوغ للانتحار لأجل ما يسمى بالعمليات الاستشهادية، محرم ولا يجوز، قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: )نرى أن العمليات الانتحارية التي يتيقن الإنسان أنه يموت فيها حرامٌ، بل هي من كبائر الذنوب؛ لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنَّ "من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة" ولم يستثنِ شيئًا بل هو عامٌّ. الأمر الثاني: أن الواجب على المسلم عدم الانجراف خلف الجهلة والغوغاء الذين لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، بل الواجب الرجوع إلى أهل العلم الثقات الراسخين. وإن من أعظم ما يلي به المسلمون اليوم في وقت الأزمات هو مشابهة الدول الغربية في إحداث مسيرات ومظاهرات للمطالبة بتغيير وضع ما أو حكم أو حاكم ما، وقد ثبت بالتجربة والواقع أن ذلك لا يُغير شيئاَ؛ وإن حصل فهو محدود جداً؛ بل ما يحصل جراءه من إراقة للدماء وسرقة للممتلكات وحصول فوضى عارمة وفتن وهرج ومرج أعظم بكثير، وإن الناظر المنصف المتأمل لمقاصد الشريعة يجزم أن الشريعة لا يمكن أن تتفق مع تلك التصرفات والمظاهرات حتى ولو كانت كما يقال: (مظاهرات سلمية)، فإنه ولابد أن تفضي إلى محرمات وكبائر، والواقع خير شاهد، قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: (فالمسيرات في الشوارع والهتافات والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبة التي هي أحسن، فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والمظاهرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم يستعمل المظاهرات ولا المسيرات ولم يهدد الناس بتخريب أموالهم واغتيالهم). قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله ما نصه: (ولا شك أن المظاهرات شر؛ لأنها تؤدي إلى الفوضى من المتظاهرين ومن الآخرين، وربما يحصل فيها اعتداء؛ إما على الأعراض، وإما على الأموال، وإما على الأبدان؛ لأن الناس في خضم هذه الفوضوية قد يكون الإنسان كالسكران لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، فالمظاهرات كلها شر سواء أذن فيها الحاكم أو لم يأذن. وإذن بعض الحكام بها ما هي إلا دعاية، وإلا لو رجعت إلى ما في قلبه لكان يكرهها أشد كراهة، لكن يتظاهر بأنه كما يقول: ديمقراطي وأنه قد فتح باب الحرية للناس، وهذا ليس من طريقة السلف). وأخيراً: أوصي نفسي وإخواني المسلمين بسلوك الطريق المستقيم والسعي إلى جمع الكلمة، والتعاون على البر والتقوى للرقي بمجتمعاتهم وأوطانهم، والابتعاد كل البعد عما يغضب الله جل جلاله، فبالتقوى تدوم النعم، وبالذنوب تحل النقم، ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وقال تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ).