حقًا إنها ثقيلة، تلك الذاكرة المحمّلة بأحداث التاريخ ومآزقه، والمعبّأة بتراكمات الماضي أو بأوهامه، ذاكرة تحفظ الماضي وتحتضنه، وتكرر إنتاجه في مراغمة بائسة لواقع مختلف وعالم متغير، ولو كانت تجهل التغيّر والاختلاف لكان لها العذر، لكنها ترى التغيّر مؤامرة، والاختلاف استلابًا. على أنها في بعض حالتها السطحية اعتبرت «قيمة كل امرئ ما كان يحسنه»، وبالتالي فهي تنتج ما تحسن وتلك هي قيمتها، بينما لا تشكل هذه المقولة الخاطئة سوى عائق للتفكير وحاجزًا عن الفعل، في الوقت الذي يقرؤها الفاعلون بأحرف مغايرة؛ إذ هي عندهم تُنطق وتفهم هكذا "قيمة كل امرئ ما كان يطلبه". ثقل الذاكرة أصاب الإنسان العربي في كل أبعاد حياته العلمية والعملية على حد سواء ، وهو وإن انعتق أو تخفّف منه (اقتصاديًا)؛ نظرًا لمتطلبات السوق وقوانينها التي تقضي بأن أي حال من التأخر لا تساوي إلاّ الخسارة وربما الخسارة الفادحة ،كما تأثّرت بثقل الذاكرة حالات اجتماعية في النسيج الاجتماعي العام، أو الدوائر الاجتماعية الصغرى والأهم (الأسرة ومكوناتها)؛ فكل من الزوجين - مثلاً - محمل على شريك حياته وقرين وجوده بأخطاء وكلمات، وكما هي الحال بين الإخوة والأخوات. ويبقى سؤال الحل مفتوحًا ومطروحًا، وإذا كان لي أن أساهم في رؤيتي فإن ما نحن فيه هو تكوّن ثقافي، ولنداوِها بالتي هي الداء. إن أكثر ما يؤرقني هو ثقل الذاكرة في الخطاب الثقافي العربي أيًا كان توجّهه ونوعه، أو سطحيّته وعمقه ، ما يجعل منتجات هذا الخطاب (عناوينها ومحتواها) تعبر عن هذا الثقل (الخطاب الثقافي) على وجه العموم،وعلى سبيل المثال كان من آخر ما أنتجته تلك المحاضن منتدى على مدار أيام عدة كان حول " امرئ القيس الشاعر "، ويا ليت البحث والمداولات حول راهنية النص عند هذا الشاعر، وإنما الذي قيل كان جيده بمستوى المقتبس من بحث أكاديمي لنيل درجة علمية حول هذه الشخصية، ولم يكن قط حديثًا راهنًا، ويكفيك عنوان المنتدى " امرؤ القيس... التاريخ والريادة الشعرية " وحتى الفلسفة في تداولها يكون الحديث عن محاولة إعادة الاعتبار أكثر منه لفهم مرحلتها وقراءة تحولاتها " وأما في الخطاب الثقافي الاجتماعي الشعبي الدائر بين «السالفة والقصيدة»، وذكريات أحاديث الحروب قديما ومعارك القبائل وصراعات الجيران. وأما الخطاب الثقافي السياسي العربي فهو يعيش هنا وهناك، ولأن هذه هي طبيعته فالكلام معه أو حوله لا أحسنه، لو أن جهدًا مضافًا حاول طرح أسئلة الواقع، ناهيك عن أسئلة المستقبل، على هذه الذاكرة المثقلة، هل سيجد عندها أجوبة؟ أو سينتظر منها مشاركة ومفاعلة؟ . أم أنها ذاكرة مشغولة بمخزونها القديم وليس بمقدورها إلاّ الدفاع عن نفسها، فأنى لها التشكل في مفاصل الحياة اليوم؟! لن يعني كلامي هذا الفصل التام عن التراكم الذي نحن نتاجه، ولا يمكن لعاقل أن يتصور ذلك فضلاً عن التفوّه به، كل ما أعنيه هو عيب الاحتباس في الماضي عن الواقع والمستقبل، وتعويد العقول على التكرار بدل الإنتاج، على أن بعض الماضي يمكن تحويله إلى راهن يساهم في فهم الحاضر. يظهر أن عندنا إشكالية في فهم مدلول "التأريخ" عندما لانستوعب دروسه ، فيما نحن نضيع الفرص السانحة عبر معطيات عصرنا، ونضيع أمام أجيالنا العربية فرصة العبور إلى المستقبل، على أنني أراهن على هذا الجيل للوجود في مواقع متقدمة يصنع من خلالها التأثير الحياتي.