تموت الشعارات الصاخبة؛ إذ لا تمتلك من معالم الواقع والمادة ما يكفل لها ولو نوعاً من الحياة، وتتساقط عنها أوراقها التي كانت في يوم من الأيام تبشر بعهود واعدة؛ وزمن جميل لم يخطر على قلب بشر، ولا يبقى منها بعد رحلة الصراخ المتحشرج إلا شواهد بائسة على زمن الفجيعة المنقرض. تموت تلك الشعارات على أسوأ خاتمة، وتبقى التجارب الإنسانية الحية، التي وإن اهتصرتها دورة الحضارة، وحاصرها العمر الافتراضي لتجارب الإنسان، إلا أن الصالح منها يتخلق - خلايا - في رحم الحياة لحضارة اخرى. تبقى منها تجارب الإنسان التي خطت به نحو حقيقته الإنسانية حية، ولا تندثر كغيرها؛ لكونها تراكماً في الوعي الإنساني، يستحيل نسيانه، ويصعب خفوت الوعي به. وكما تبقى خطوات الوعي بما هو إنساني راسخة في الوعي، تبقى المنجزات المادية - التي تشير على نحو محسوس إلى عوائد ذلك الوعي - راسخة في الواقع المتعين، تشهد بأن رؤية ما، كانت حاضرة وقادرة على إنجاز هذا الفعل. لقد أثبتت التجارب الواقعية أن الشعارات مهما تقاطعت مع الذاتي، وضربت على الوجداني، لا تحرك إلا وهماً، ولا تبني بعد طول العناء، الا صروحاً من خيال، حتى وإن تجاوبت معها الجماهير الغائبة والمغيبة بأقصى ما لديها من إيمان. إنها ليست شعارات جوفاء فحسب، بل هي أوهام؛ بقدر ما كانت تحيل إلى وهم تاريخي أو واقعي. انها تريد أن تستعيد حضارة قد انقرضت، ولا حضارة حقيقية كي تستعاد، أو - على الأقل - تستلهم كتجربة في هذا التنافس الأممي. الحقيقة التي تحرق كل شعار عروبي جاهل أو إسلاموي حالم أن الحضارة الأعظم، والأكثر جدوى، والأعظم تأثيراً على حياة الإنسان الحديث، هي الحضارة الغربية المعاصرة. إنها الحضارة العظمى التي جعلت كل حضارة قبلها مجرد مسودة تاريخية لاقيمة لها إلا في سياقها التاريخي. أما خارج هذا السياق، فانها تكاد أن تكون عبثاً غير بريء بالإنسان، أخذ منه أكثر مما أعطاه. وكل تحول يستحضر مثالاً، فعندما يريد مجتمع ما، أو تشاء أمة من الأمم أن تخرج من تخلفها وانحطاطها وضياعها إلى واقع أفضل، فإنها لابد أن تتمثل تجربة حضارية ما؛ كي تخرج من غياهب التخلف والانحطاط إلى فضاء الحضارة والرقي، وهذا السلوك هو ما يعرف بالتفتح السمح، يقول الدكتور هادي نعمان الهيتي عن هذا التفتح السمح، الضروري للأنا؛ كي تتقدم حضارياً: «التفتح السمح يمثل قدرة الفرد أو المجتمع على وضع نفسه في موضع فرد أو مجتمع آخر، ومن ثم تبني أفكار وتصورات جديدة، مع التخلي إلى حد ما عما هو غير متوافق مع ما يقتضيه التغيير». ويشير إلى التجربة التي أجريت في ستة أقطار هي: تركيا، ولبنان، ومصر، وسوريا، والاردن، وايران، حول موضوع تجاوز المجتمع التقليدي إلى الحداثة، وتوصلت التجربة إلى أن هناك عملية نفسية يلجأ إليها الفرد والمجتمع عن طريق توحده خيالياً مع صفات شخص أو مجتمع آخر يعجب به، مما يخلق الدافع إلى تغيير واقعه إلى وضع أفضل(1). إذن لابد للأمة التي تحاول انتشال نفسها من حضيض التخلف أن تستحضر التجربة التي تكون أكثر فاعلية من غيرها، تستحضرها في وعيها استحضاراً عميقاً، يمكنها من استلهام الروح المحركة لتلك الحضارة (التجربة). وبالنسبة لنا لاشك أن الحضارة الماثلة للعيان كتجربة متجسدة على أرض الواقع، وكفاعل ومؤثر فيه، هي الحضارة الغربية التي يحاول التقليديون بأطيافهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تحصين الوعي لدينا ضد تمثلها، واستلهامها؛ كي لا تعمل في الوعي عملا ينتفض على التقليد وتحالفاته. لقد أصبح من الواضح أن خيارنا في هذا السياق التاريخي الذي نحن فيه هو الخيار التنويري، دون غيره من الخيارات، بوصفه حامل قيم الحضارة المعاصرة، التي نسعى للامساك منها ولو بطرف في أسوأ الأحوال. التنوير الأوروبي يختلف، فليس شعارات بل هو حقيقة، من حيث هو محيل إلى تجربة حقيقية، لايزال العالم أجمع مبهوراً بها ومسكوناً بتداعياتها على المستوى الإنساني والكوني. وبما أن التنوير الأوروبي ليس شعارات تحيل على أوهام، وإنما هو خطاب تجربة حقيقية، تلامس وقائعها - مباشرة - حواس الإنسان المعاصر، فإنه التجربة الأمثل ليتمثلها العالم الإسلامي، هذا العالم الذي تعود على هضم الشعارات، وعلى الاقتيات على فتات الوهم الخادع، ولن يوقظه من حلمه الخادع إلا تجربة الواقع، خاصة إذا كانت تجربة لها زخمها الفكري والمادي. ويزيد من حتمية استلهام التنوير الأوروبي، أن هذا التنوير ينطوي على ما يفتقده العالم الإسلامي على تباين أقطاره من قيم، وانه ملائم للظرف التاريخي الذي يمر به العالم الإسلامي أجمع. هذا الظرف الذي يشكو من غياب الإنسان كقيمة، ومن حضور الخرافة كبديل للمعرفة، وللتقليدية كبديل للوعي المتجدد. وبما أن قيم العلم وروحه ومساراته حاضرة في السياق التنويري الأوروبي، وقيمة الإنسان كذلك، وبما أن عوائده الايجابية ماثلة للعيان، فإن الرهان عليه لن يصبح رهاناً خاسراً. إن تكامل التجربة - أي تجربة - ونضجها، ووضوح الخيارات داخلها، يجعلها تجربة مغرية لمن يريد أن يتمثلها ويموضعها في واقعه، وهذا هو حال التجربة التنويرية الأوروبية، إذ هي - بمجملها - تجربة ناجحة على أي حال، فضلاً عن تزامنها النسبي باشكالياتها وهمومها التاريخية مع اشكاليات الأنا وهمومها، وهو تزامن له أهميته، لا من حيث تنامي نسبة المتشابه من هنا وهناك فحسب، وانما من حيث امكانية التجاوب معه من أولى خطوات التجربة إلى آخرها؛ لكونها تجربة واحدة، مهما تعددت المراحل وتنوعت. ومن المحزن أن الخيار التنويري، مع أنه كان هو الخيار المطروح على الوعي العربي إبان اللقاء بالآخر الغربي، خاصة في المراحل الاولى، إلا أن هذا الخيار جرى وضعه - فيما بعد - في دائرة الاتهام، ومن ثم جُيّش الوعي لمحاربته، بوصفه خيار الآخر المكروه، لا خيار الأنا المتنرجسة. ولقد كان محاربو التنوير ولايزالون أحد هؤلاء الأربعة أو جميعهم: 1 - تقليدي، تعود أن يتعامل مع الأشياء والأفكار بنمطية بلهاء، تريحه من عناء التفكير المبدع، واستحداث الأنظمة والأطر المعرفية لواقع جديد ومعرفة مغايرة. هذا التقليدي عندما يفاجئه خطاب التنوير فإن تعامله معه - وهو التعامل الطبيعي هنا - لن يكون أكثر من رفضه جملة وتفصيلاً، والهروب منه ومن الواقع إلى غياهب التراث؛ ليستلهم منها عالماً آخر، عالماً مختلفاً عن واقعه المهين وعن خطاب الآخر المريب!. وإزاء هذه الحال (التقليدية) التي يختنق الوعي في مستنقعها، وفي الوقت نفسه لا يرضى بها بديلاً، حاول بعض دعاة التنوير، الدخول اليها من زاوية أخرى، زاوية مخاتلة (غير تنويرية) تزعم أن قيم التنوير - بل ومنجزاته - كانت مكنونة في التراث العربي القديم، وأن العبء الذي يجب أن يضطلع به المثقف المعاصر، هو أن يقوم بالبحث عن قيم التنوير في تراثنا، ومن ثم الزعم بأنها من صميم قيمنا، سرقها منا الغرب الآثم على حين غفلة من الزمن!!، فنجح بها في اقامة حضارته. ولا شك أن هذه التلفيقية في مجملها عملية عبثية لا علمية، تنتكس بوعي الأمة، وتدخلها في التيه التي لم تخرج من سراديبها بعد!، فضلاً عن كونها ممارسة لا أخلاقية في التعاطي مع الشأن العام، عندما تتعامل معه على هذا المستوى من الخداع. ومن الواضح بعد هذا التعولم الإجباري أن الوعي الجماهيري بدأ يفضح مثل هذه اللعبة التي تغازل وجدانه لا عقله، بل تفترض فيه الغباء ابتداء، وأخذ ينعتق - قدر ما يسمح به سياقه - من اسارها. لكنه بدل أن يوجه وعيه تلقاء الشمال الغربي - جغرافياً - حيث الحضارة الحقيقية المتجسدة على أرض الواقع، توجه تلقاء الماضي - تاريخياً، لعله يجد فيه ما يغني، ومع طول البحث إلا أنه لم يجد..!؛ لأن التاريخ لا يختصر الجغرافيا ولا يقوم مقامها. وهذا التقليدي هو - في أكثر الأحيان - من عموم الجماهير، أي انه يتعاطى مع الأفكار والوقائع تبعاً لما تمليه روح الجماعة التي ينتمي إليها، دون تأمل ومساءلة فاحصة لهذه الروح. وبهذا فالانعتاق لن يكون انقلاباً على الوعي، وانما تأمل فيما هو خارج حدوده، وهذا أثره على المدى القريب محدود. 2 - المتعصب الفكري، وهذا - في الغالب - يكون قد نشأ على منظومة منغلقة وتشرب أفكارها وآمن برؤاها، حتى أصبحت تلك الرؤى التي يعاين بها الواقع المعاصر - بكل ما فيه - عقائد وإيمانات لا تقبل الجدل، ومنها الموقف من الآخر ذاتاً وفكراً.، ومن الواضح أن هذا ليس كالتقليدي الامتثالي الذي يؤتي من قبل كسله العقلي وانسياقه للاجتماعي، وإنما يؤتي هذا من قبل تربية متأدلجة طويلة الأمد، تسحق الوعي الفردي وتشل قدرته الفطرية على النقد، وكل ذلك في سبيل الوعي العام. وإذا كان المتعصب ينشئ مقولاته على نحو ما، ويظهر في مظهر المفكر فيما يبديه من جدل وخصام في مضمار المنافحة عن تياره الخاص أو مذهبه الذي ينتمي إليه، فإنه في الحقيقة لا ينطق عن نفسه ابتداءً، ولا يفكر بذاته، وإنما ينطق بلسان مجتمعه الصغير ومنظومته المؤطرة، ويفكر بواسطة مقولات تلك المنظومة ورؤاها العامة، بل، قد يردد في أكثر الأحيان مقولاتها بالنص، دون اعتبار للسياق الاجتماعي والفكري الذي يطرح فكرته من خلاله. 3 - الجاهل بالعائد التنويري، فقد يعادي بعض الناس التنوير لأن عائده الإيجابي لم يتحقق لديهم، ومن ثم فالمغامرة التنويرية لا ضرورة لها، لأن مستوى الربح المتوقع لا يفي بها - بزعمهم -؛ لأن قراءة التاريخ وتحولات المعاصرة ليست واردة في برامجهم الحياتية. ومع أن نتائج الزمن التنويري الأوروبي تلج - بقوة - إلى أدق التفاصيل في حياتنا المعاصرة، إلا أن توفر (المنتج) الحضاري ينسي حقيقة غياب الحضارة، بل قد لا يفهم مستهلك المنتج الحضاري من الحضارة إلا هذا المنتج المادي الذي بيني يديه. 4 - وبعد كل هذا، لا شك أن هناك سبباً موضوعياً للارتياب بالتنوير، وهو سبب يعود لملابسات التنوير العربي وظروفه الخاصة وليس للاصل التنويري في صورته الغربية. إن التنوير العربي الذي تلبس بهذه الصفة (التنوير) لم يكن قادراً على اكتساب ثقة الجماهير، ولم يكن تعاطيه مع مؤسساتها وقيمها على مستوى المهمة المنوطة به. التنوير العربي كان - غالباً - على الضفة الاخرى للديني، مع أن بداياته (الطهطهاوية) وإلى عشرينيات القرن العشرين، كانت متواشجة مع الديني. لكن بدأ الانحسار والصدام منذ العشرينيات في القرن المنصرم حتى البدايات الراهنة للتنوير المهموم بالديني والذي يظهر في أكثر من مشروع. هذا التنوير يقف في الوسط بين التطرف الإسلامي أو الانغلاق السلفي وبين التنوير الذي يرفض الاستثناء فيما يستلهمه من قيم التنوير الأوروبي. إن هذه الحال التي تأبى - في سياق فعلها التنويري - أن تضع الاعتبار للديني، ولو وفق أوسع القراءات انفتاحاً، حال تستقطب الارتياب بها وبأطروحتها استقطاباً، وتعزل نفسها - بقوة - عن الجماهيري الذي له الدور الحاسم في النهاية. وقد لاحظ بعض دعاة التنوير سلبية هذا الرفض للاستثناء في القيم التنويرية، مع أنها تخضع في أي مجتمع للاستثناء. يقول جلال أمين، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في القاهرة: «الحقيقة أن دعاة التنوير في بلادنا كثيراً جداً ما يرفعون شعارات حرية التعبير والتسامح مع الرأي الآخر وكأن كليهما يجب ألا يرد عليه أي قيد، فيدافع كثيرون مثلاً عن حق الكاتب في التعبير عما يشاء، دون أن يكلفوا أنفسهم عبء قراءة ما كتبه هذا الكاتب، بافتراض أن حرية التعبير مطلقة، وأن تقييدها يضر في جميع الأحوال بالمجتمع. وهم كثيراً ما يبدون ترحيباً حاراً ويحتفلون بكل من يتجرأ على التراث والتقاليد بالنقد والتهكم، حتى في الحالات التي يخلو العمل فيها من أية قيمة فكرية أو فنية تذكر..الخ»(2). وبعيداً عن الاتفاق أو الاختلاف مع جلال أمين في هذا التوصيف، يبقى التنوير العربي الذي تحدث عنه موضع تهمة. وبقدر ما يعود الاتهام إلى جهل المتلقي (المستريب المتهم) بأبعاد الأطروحة التنويرية، بقدر ما يعود إلى الصورة التي يتراءى بها التنوير العربي لمجتمعه، بما في تفاصيلها من دواع تعزز حجج ذوي الارتياب بها، وتمنح اعداء التنوير أكثر من فرصة لادراجه في قائمة الاتهام. وللخروج من هذا المأزق، أي من كون التنوير الذي يستلهم التجربة الأوروبية ضرورة ملحة، وكون الوعي الجماهيري نافراً من هذا التنوير، فإن التعويل على القراءة المنتجة (الايجابية) للتنوير الغربي باستصحاب المكون الإسلامي كفاعل ومنفعل بالآخر هو الحل الذي يمنح التنوير قبولا، شرط الا تكون المراهنة على استجابة جميع أطياف الإسلامي، فبعض تلك الأطياف ستبقى متطرفة وستموت ملة التطرف. إذن أمام الفاعل الإسلامي مسارات كثيرة للفعل التنويري، ولأن يكون شجاعاً في ذلك بما يتطلبه الظرف الآني، وإلا تقدمت - بفعل الواقعي وزخمه - خيارات أخرى، خيارات يبقى - بسببها - الفصام النكد بين ما يكون وما نريد أن يكون. وإذا كان الخديوي إسماعيل قد طلب من علماء الأزهر في أواخر القرن التاسع عشر وضع قوانين للواقعي مستمدة من الشريعة؛ كي يستغني بها عن القانون الفرنسي، فلم يقدموا على هذا التقنين (ورعا) فإن كثيراً من أحوالنا ليست ببعيدة عن ذلك الحدث الفارق بصورة أو بأخرى، والنتائج قد تكون متشابهة، إن لم تتطابق. إن الأمة ليس لديها الوقت الفائض عن الحاجة لتخوض تجارب عبثية، وتمارس شعارات جوفاء، تداعب الوجدان وترضي الغرور، بينما جدواها على الواقع معدومة، أو عكسية كارثية. أمامنا الآن تجربة حية، واضحة العالم لقارة كانت تعيش عصور الظلام، فتحولت من التخلف المريع إلى التقدم المبهر، فلا نضيع الوقت في دعاوى العوربة والأسلمة التي صنعت للاستهلاك الخطابي. لقد قال امرؤ القيس - وهو العربي الصريح - مؤمنا بضحالة الفعل العربي، وجدوى الفعل الرومي (الغربي) في ذلك الزمن الغابر، ولكن في سياق مغاير: ولو شاء كان الغزو من أرض حمْير ولكنه عمدا إلى الروم أنفرا ? هوامش: (1) اشكالية المستقبل في الوعي العربي، الدكتور هادي نعمان الهيتي، ص 751 (2) قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر. مجموعة مفكرين، ص 37