ماتَ قَبْلَ أن يَموتَ بعشرة أعوام على الأقل، لكن من النّاحية العُضوية لا الروحية أو المعنوية، وقد حاول البعض التقليل من شأن إعلان الفيلسوف الفرنسي غارودي لإسْلامه، إلى أن شاهدوه يدفع الثمن ويُبْعَث قانون للمطبوعات الفرنسية من رماده كي يبرر ملاحقة الرّجل كما حدث لكل من الأب بيير والعالم فريسون. لم يكن روجيه غارودي “حَنوناً" الذي لم يزد في الإسلام خردلة منذ أن روى حكايته مع إسْلامِهِ في كتابه “حوار الحضارات"، فهو كان مُجنّداً في الجيش الفرنسي أثناء احتلال الجزائر وتعرض لموقف قال إن المصيرَ المُحتّم له هو الموت. لكن المسلمين عاملوه كأسير وبالتالي لم يُعْدَم، تلك حادثة شخصية لكنها فتحت أمام غارودي أبواباً واسعة لإعادة قراءة التّاريخ، وعبور كل ما لَفقَه المُستشْرقون حول العرب والإسلام. فهو يروي مثلاً أنه درس في المرحلة الابتدائية في فرنسا تاريخاً مصنوعاً وليس حقيقياً، أما السؤال الذي كان يتردد فهو: ما الذي كان سيحدث لأوروبا والعالم لو انتصر العرب والمسلمون في معركة بواتيه الشهيرة؟! الإجابة كما يقول غارودي هي أن العالم ومنه بلاده قد نجا من هذا الانتصار. ولأن غارودي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لفترة من الزمن مات قبل أن يموت، فقد جاء نبأ رحيله بوقع بارد، ولم يُوَدع فكرياً بما يليق بأمثاله، وإسهامات غارودي في الثقافة المعاصرة متعددة وشبه موسوعية، لكن الإعلام المسيّس والدوائر الصهيونية اختزلته في موقف واحد هو قراءته للصهيونية وما سماه أساطيرها السّبع. ولم يكن إعلان غارودي لإسلامه مسألة فكرية خالصة أو موقفاً تجريدياً وذهنياً، لقد جاء بعد تلك التجربة التي عاشها واعترف بأن الفضل في بقائه حيّاً بعدها هو ذلك القائد المسلم الذي عامله كأسير بخلاف الأسلوب الوحشي الذي عُومل به الأسرى العرب خاصة المقاتلين الفلسطينيين. في كتابه عن الأصوليات يرى أن هذا التفكير المتعصب والسّاعي إلى الاحتكار وإقْصاء الآخر المختلف هو صناعة أوروبية بامتياز، وتحميل العرب والمسلمين أعباء هذه الصناعة فيه الكثير من الإجحاف ويضرب العديد من الأمثلة من صميم التاريخ الأوروبي. لهذا كله لم يكن غارودي “خردلة" أو مجرد رقم في تعداد مسلمي فرنسا والعالم، بل كان له أثر مشهود دفع خصومه إلى التشْهير به ومطاردته ووصفه باللاسامي، لأنه تجاسر على تكذيب أشد أطروحات عصرنا تسلّحاً وتلفيقاً. إن ما كُتِبَ عنه حيّاً وأثناء خَوْضه لتلك الحروب الفكرية انقطع بسبب سقوطه في غيبوبة أشبه بموت سريري لأعوام عدة، لهذا ينبغي لمن حاول إنْصافهم وَدَفَع الثمن أن يَوَدّعوه بما يستحق.