منذ أن عصفت نسائمه، الكل هبّ للحديث عن «الربيع العربي» الذي أزهر ديمقراطية هجينة بذورها جلبت من الخارج لتزرع في أرض العرب حتى تزيدها جدبا وقحطا.. المهرجانات العالمية تفرش له سجادتها الحمراء والإعلام يرمي له بساتين من الورود ويكيل له عبارات التمجيد والإعجاب، بينما البلدان المعنية بهذا «الربيع» لم تعد قادرة حتى على حماية آثارها، كما لم تعد قادرة على حماية ابداعها في ظل ظهور قوى جديدة وظّفها هذا «الربيع» ضد الفن والثقافة. حلّ «الربيع العربي» نجما على المهرجانات الدولية والمحافل العالمية، أحدثها مهرجان «كان» السينمائي الدولي، والذي يحتفي بالربيع العربي من خلال فيلم «بعد الموقعة» للمصري يسري نصر الله و»قسم طبرق»، للكاتب الفرنسي الصهيوني برنار هنري ليفي.وهذه الاحتفالية هي حلقة من سلسلة طويلة من التكريمات الأجنبية ل»الثورات العربية».. احتفل فيها العالم بأدباء «الربيع العربي»، وفناني «الربيع العربي» ومدوني «الربيع العربي»، ومصوري «الربيع العربي» و... و...، إلا مواطن «الربيع العربي» الذي لم ينعم بنسائم هذا «الربيع» أبدا.. حاله في ذلك كحال الثقافة التي استبشرت خيرا من هذا «الربيع»، وبدأت تعدّ العدّة لتقطف من بساتينه ما لذّ وطاب من ديمقراطية وحرية إلا أنها وجدت أن غلّة هذه البساتين ليست للاستهلاك المحلي بل للترويج في الخارج فقط، يسوّق له في المهرجانات الدولية ويحتفى به في المحافل العالمية تحت مسمى «تكريم الربيع العربي»، هذا المصطلح الذي ابتدعه الإعلام الغربي ليعمي به البصيرة عمّا يخفيه هذا «الربيع» خلف شعاراته الرنانة وديمقراطيته الزائفة. فأي «ربيع» هذا الذي يتسبب في تدمير «تاريخ» الأمم؟ وأي «ربيع» هذا الذي يفجّر «مواطنين» يسعون بالعودة بالثقافة العربية إلى عصور الظلام، بل إن بعض هذه الممارسات مرفوضة حتى في تلك العصور، والحضارة العربية كانت في عصورها الغابرة أكثر انفتاحا وأكثر حداثة وديمقراطية من بعض المظاهر التي تعيشها الشعوب العربية التي لا علم لها بقواعد اللعبة السياسية الكبرى، ولا يعنيها من كل ما يجري سوى أن تسقى ماء الحياة بعزة.. وكأن شعوب هذه البلدان بصدد تنفيذ ما جاء في بروتوكولات «حكماء صهيون» التي تدعو إلى «... استغلال مشاعر الحسد والبغضاء التي يؤججها الضيق والفقر وتشجيع الجهلة والمتخلفين وأصحاب العقائد على الثورات لأنهم يتصرفون كالعميان لا يرون ما يفعلونه من خراب ودمار ونشر الفوضى في كل مكان وايقاع أكبر مساحة من الضرر في البلدان». لقد قامت الثورة العربية على مبدأ الحرية، فلماذا ينصرف الحكام الجدد عن هموم الشعوب بتصفية الحسابات على الطريقة المكارثية.. المعروف هو أن الثورة هي تقدُّم إلى الأمام وليست انتكاسات إلى الخلف، فهل يعقل أن تكون الصروح التاريخية والمعالم الأثرية التي تقف شاهدة على عراقة هذه البلدان أول ضحايا «الديمقراطية»؟. عندما هلّت نسائم «الربيع العربي» حاولنا أن نضحك على أنفسنا بأن هذا هو زمن الشعوب العربية وتوهّمنا أن هذا زمن استعادة مجد بغداد وتحقيق أحلام القومية والزحف العربي نحو فلسطين المحتلّة. ولكن، اليوم، و»الثورات» العربية، دخلت عامها الثاني بات من الواضح أن هذا «الربيع العربي» لن يسهم في تحرير العقل العربي ولا في نشر الديمقراطية العربية المنشودة بل هو «فيروس» آخر يحقن به جسد الأمة ليزيد من انهاكه ويؤجّج صراعاته.