يقول أنيس منصور "ما دمت لاتقدّر أحداً فكيف تغضب لأن أحداً لايقدرك؟"،ذكرتني مقولته بالمواقف التي كِلتُ فيها بمكيالين فطالبت بتقديرٍ ما في الوقت الذي قصّرت فيه في تقدير أمرٍ آخر،حقاً إن العين التي تلاحظ جهود الآخرين هي وحدها من تستحق أن يلاحظها الآخرون،وليست العين الأنانية التي لا ترى إلا صاحبها وتعيش وهم أنه محور الكون. كيف هان على إحداهن أن تعود من دعوة عشاءٍ أوحفلةٍ ما فتنتقد مذاق أحد الأطباق أوتسخر من أمرٍ ما كأثاث المنزل أوملابس صاحبته، ألم يدر ببال الزائرة كم استنزفت صاحبة الدعوة من الوقت والجهد للتجهيز لتلك المناسبة بكل تفاصيلها من إعداد للطعام وتهيئة للمكان،وكم وقفت أمام المرآة لتختار ما سترتديه بعناية، هي جهودٌ بُذِلت ثم هُمِّشت بدم بارد، مهما اختلفت الأذواق فالتعب المبذول جهدٌ يستحق الإشادة أوحتى الإشارة ، وعلى أقل تقدير يستحق أن نمتنع عن التعليق إن كنّا لا بد سنتحدث عنه بسوء، مع العلم أن تلك التعليقات السلبية قد تدخل ضمن الغيبة وتنم عن حالة متقدّمة من قلة الذوق. وفي موقف آخر قالت لي إحداهن: "هل تصدّقين أن خادمتي قد نظفت الحائط الخارجي للمنزل؟! يا له من مجهود متعب وضائع.. فالجو عاصف وسيتجمع الغبار في كل الأحوال، ثم إن أحداً لم يطلب منها ذلك ولكنني أعتقد أنها تحب أن تتعب نفسها تلك الغبية!" تذكّرتُ حينها أن هذه المرأة هي نفسها كانت تتذمر من مديرها في العمل لعدم تقديره ما تبذله من جهود مميزة تبادر لها دون أن يطالبها بها أحد، حيث تعمل ساعات إضافية دون مردود مالي، وتساءلت كم مرة مَنَحَت لخادمتها زيادة في الراتب بسبب الخدمات المستحدثة أوبسبب الأوقات التي تم قطع نومها فيها لتعمل ساعات إضافية دون مراعاة بشريتها وحاجاتها البيولوجية كالنوم والنفسية كالتقدير. إن المواقف اليومية التي يفوتنا فيها تقدير جهود الآخرين كثيرة، فالنادل الذي يتفنن في خدمة زبائن المطعم ويستقبل ملاحظاتهم الدقيقة والمزعجة أحياناً بسعة صدر، ويستحمل لومهم له على ارتفاع الأسعار وكأنه هو من وضعها، بل ويرسم على وجهه ابتسامة عريضة رغم كل ما قد يشعر به حقاً؛ فهو يستحق إكرامية تعبّر عن تقديرك لجهده الكبير في مقابل راتبه الضئيل، والسائق الذي يفسح المجال لسيارتك كي تمر يستحق إيماءة شكر تقدّر بها مراعاته لوضعك في السير، والطالب الذي يَهبّ ليمسح السبورة جيداً كي يوفّر وقت الحصة ولتتمكن أيها المدرس من الكتابة عليها بوضوح وسلاسة يستحق أن تربّت على كتفه تقديراً لمبادرته وإتقانه. نُمَحوِر الكون حولنا أحياناً دون أن نشعر فننشغل برغباتنا واحتياجاتنا، ونركّز تعاطفنا على أنفسنا فنأسف على ما تعبنا فيه ومرّ دون إشادة، ونغفل عن تقدير تعب الناس حولنا فنصبح سبباً في أن يشعروا هم كذلك بالأمر ذاته على أصعدة أخرى، هذه دعوة لخلع رداء الضحية قليلاً والنظر للموضوع بعين الجاني، فلتتذكّر في المرة القادمة قبل أن تغضب من عدم تقدير شريك حياتك لك أنك ربما غفلت عن تقديره في أمور أخرى، أليس من الأولى أن ننشغل بإصلاح أنفسنا عن محاولات تغيير الآخرين؟