عاش صاحبنا وهو لا يكاد يَضيق بشيء كما يَضيق بهذه الولائم، التي كثيرًا ما تُفرَض عليه فرضًا، ويُدْعى إليها بغير إرادته، فلو تُركَ وشأنَهُ لما أجاب داعيًا، ولما حَضَرَ وليمة، ولكنه مضطر إلى إجابته؛ بحُكْم أنه لا يستطيع أن يقطع عَلاقاته بالناس، خاصةً أن الكثير منهم يتخذها مقياسًا في علاقاته بالآخَرين، ويحاسب عليها. وكم دُعي إلى وليمة كانتْ عليه أشدَّ من حمل الحصى؛ لأنها تفسد عليه برنامجه اليومي الذي ألِفَه وسار عليه، وتفرِضُ عليه ألوانًا من الأطعمة قد لا توافق طبيعته، كما أنه يرى فيها مظهرًا من مظاهر السرف والتبذير، وإضاعة الوقت، وهي - فوق ذلك - مُحرِجة ملجئة، كثيرًا ما أخَّرتْ عن فرض من فروض الله، ثم هي - بعد هذا - تَجمَعه أحيانًا بمن لا يحرص عليه لأي سبب من الأسباب التي تَعْتَرِي عَلاقات البشر، وقد خُلِقَ حسَّاسًا تنطبع في نفسه المواقف، ولا يكاد ينمحي أثرها: ويَكْفِي بعض هذا لكي تصبح هذه الولائم المتكررة عنده شرًّا لابدَّ منه. كان هذا شأنَهُ؛ فقلتُ له يومًا - وقد جرى شيء من هذا الحديث -: إنك لَرجلٌ تسرف في الخيال، وتعطي الأمور أكبر من حجمها، وتنظر إليها من زاوية حادَّة تبعدك عن تصورها على واقعها؛ إن هذه الولائم – على ما فيها – مَظهَر من مظاهر الأُلفة والتعارف، وشدِّ الأواصر، وبذْل الندى، ثم هي تقليد حميد، وعُرْف سائر، وأخلاق متوارَثة، وهَبْها شغلتْكَ عن بعض ما أنت فيه، أو جَمَعَتْكَ بمن لا تود، فإنها في مقابل ذلك عوضتك أضعافًا من جوانب أخرى لا تتاح لك من غير طريقها. فالتفتَ إليَّ وقال: نعم هناك اجتماعٌ وتلاقٍ كما تقول، ولكن ما هذا الاجتماع يا تُرى؟ إنها دقائق معدودة، ريثما يكتمل الجمْع فيُدلجون إلى طعامهم المُعَدِّ ثم يَنداحون، ولا يتم شيء مستطاب من الاجتماع المفيد الذي تقصده لضيق الوقت؛ ولأن كلاًّ يحرص على الذهاب، والتخلص من هذا الارتباط. ثم أليس عجيبًا أنه ما يكاد يَقدَم قادمٌ من بلد إلى آخَرَ إلا وتُقام الدوريات، وتُذبح الذبائح، ويجتمع الفئام من الناس في ظروف غير مناسبة، ولا مواتية لكثير منهم؟! لقد كان مثل هذا التصرف مقبولاً منطقيًّا يوم كان القادم لا يكاد يجد ما يؤويه، والاتصالات في حكم المعدومة، وأحوال الناس المادّيّة يسيرة هينة، أما اليوم فالأمر يختلف, وأرجو ألا يظن أحدا أنَّ في هذا الكلام دعوة للبخل، والتخلي عن خُلُق الكَرَم، الذي انحصر في عُرْف بعض الناس في مثل هذه الولائم فقط. إن الكرم والجود أشمل من ذلك وأعمُّ، فالكرم والجود – وهما من أخلاق الإسلام – هما البذل في أي وِجهةٍ، بشرط أن يوافق الحاجة، وأن يكون مباحًا، وليست هذه الولائم مما يوافق الحاجة، كما أن مجرد البذل والإنفاق لا يُعَدُّ كرمًا يُحمد فاعله؛ إن في بعضه ما يعد تبذيرًا وإفسادًا للمال عندما يصرف في غير وجهه. إنه لا يليق بنا أن نعيش على هذه الموائد صباح مساء، وإخواننا في بلاد الإسلام شرقًا وغربًا يتضوَّرون جوعًا، ويبيتون الطوى، لا يجدون ما يَسُدُّ رمقهم. أَوَليس من شكر النعمة أن نبذل لهم بعض ما عندنا؟! ثم: ألم يكن الأَوْلَى أن يُجعل ثمن هذه الولائم والدوريات، التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ، في طعام وكساء لفقراء العالم الإسلامي الذين يُعدون بالملايين؟! كيف يصح لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، يتغدى على ذبيحة، ويتعشى على أخرى، وهناك من لا يكاد يرى اللحم عامَه كلَّه من إخوانه المسلمين؟! أين نحن من قوله - عليه السلام -: ((ليس لمؤمن أن يشبع وجاره جائع))، ولما قَدِمَ عمرُ الشام صُنع له طعام لم يرَ قبله مِثله، فقال: "هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟!"، قال خالد بن الوليد: "لهم الجنة"، فاغْرَوْرَقَتْ عينا عمرَ، وقال: "لئن كان حظُّنا في هذا الطعام، وذهبوا بالجنة؛ لقد باينونا بونا بعيدًا!"[1]. ولما أُتي له بالخَبِيص (نوع من الطعام الجيد) قال: "أَأَكَلَ المسلمون من هذا؟"، فقيل: لا، فردَّه إلى صاحبه، ولم يأكل منه، وكتب للوالي الذي أرسله:"أما بعد: فإنه ليس من كَدِّك ولا كَدِّ أمِّك، أَشبِعِ المسلمين مما تَشبَع منه في رَحْلك.."[2]. ولعل الأمر يكون أشدَّ سوءًا في مناسبات الزواج، التي تحولت إلى مظهر من مظاهر التفاخر والتباهي، سواء في اختيار القصور الفخمة الغالية الثمن، أو ما يُعرض من أصناف الطعام الفائض عن الحاجة، أو ما يُشترى من الثياب والزينة مما لسنا في حاجة إلى إضاعة الأموال فيه. إنَّ المال عصب الحياة، ونريده في بناء بلدنا، والمساهمةِ في إعمار العالم الإسلامي، والنهوضِ به بدلاً من إنفاقه في عوائدَ وتقاليدَ محَكَّمَةٍ دون وعْيٍ أو بصيرة.. عندها ودَّعت صاحبي، وأنا أقول في نفسي: إن معه بعضَ الحق، أليس كذلك؟!