حينما تصبح الوليمة رمزاً للتآلف والجود والكرم، ومجالاً لاجتماع الناس، وتعارفهم وتواصلهم، فإنها تقوم - في هذه الحالة - بدور إيجابي كبير في بناء العلاقات الاجتماعية الوطيدة، وتصبح فرصة للقاء بعد طول فراق، والاجتماع بعد طول انقطاع، وهي مع ذلك من الأعمال الصالحة التي يؤجر عليها الإنسان إذا اتجهت نيته إلى هدف الإكرام والإطعام وتحقيق فرصة الاجتماع بين الأقارب والأصحاب، وإدخال السرور على قلوب المدعوين؛ لأن إطعام الطعام عبادة، واستقبال الناس بوجه طَلْق عبادة، وإدخال السرور على قلب المسلم عبادة، وتقدير الناس واحترامهم عبادة، والكلمة الطيبة عبادة، والابتسام في وجوه الناس عبادة. لقد سُررتُ حينما حضرتُ وليمة أقامها أحد الأصدقاء لما رأيت فيها من الكرم والجود دون إسرافٍ ولا خيلاء، ولما رأيت فيها من عدم التكلُّف والمبالغة في الطعام الذي قُدِّم للضيوف، حتى إنَّ الطعام كان على قدر الحضور تقريباً، وهي صورة رائعة أعلن الحضور جميعاً سرورهم بها، ودعوا للرجل دعواتٍ صادقات - إن شاء الله - بالبركة، وزيادة النعمة، والحياة الطيبة الكريمة له ولأهله. إنَّ ترشيد (الولائم) مسؤولية تقع على عواتق الفضلاء من الناس؛ فهم القدوات التي ترسم الطريق لغيرهم، وهم المرشدون الذين يسترشد بهم الناس في هذا المجال وغيره من المجالات في إطار العلاقات الاجتماعية، وهي مسؤولية كبيرة، لا يدرك قيمتها إلا العقلاء الذين يعرفون خطورة المظاهر الكاذبة، والمبالغات التي تُهدَر بها نعم الله عز وجل، وتؤذَى بها نفوس الفقراء والمحتاجين، وتشيع بها صفات التباهي، والكبرياء، والتعالي على الضعفاء، وهي صفات فاسدة مفسدة. الكرم عند الأمم كلِّها هو الجود من الموجود، وتقديم الضيافة في وقتها المناسب للضيف مهما كان مستواه المالي والاجتماعي، والكرم مع ذلك هو بَسْط الوجه وحُسْن الاستقبال وعدم إشعار الضيف بالتكلُّف، وتقديم المستطاع من الضيافة دون شطط، فهو سجية يمكن أن يتحلَّى بها الغني والفقير، والكبير والصغير، كلٌّ بحسب موقعه وقدرته. في بعض الولائم التي يظهر فيها مقدار التباهي والتفاخر، والإسراف الذي لا مسوِّغ له، تسمع الناس ينتقدون صاحب الوليمة، ويتحدثون عن إسرافه ومبالغته بلسان (عدم الرِّضا)، بل يدعون عليه وهم لا يزالون في منزله، وهذا أوَّل دلائل عدم القبول، وأوَّل دركات الهبوط إلى سراديب الإثم والعقاب. ونحن في مجتمعنا لا نزال نعاني تلك النظرة الضيقة إلى معنى الكرم والجود، ولا نزال ننظر إلى إكرام الضيوف نظرة اجتماعية غير مستقيمة، تجعل (المفطَّح) رمزاً للكرم حتى لو كان الضيف واحداً أو اثنين، مع أن هناك أنماطاً من (الضيافة) يمكن أن تقدِّم للضيوف أحسن الأطعمة وألذها دون إسرافٍ ومبالغة. صورة من صور العادات في مجتمعنا تحتاج إلى أهل الكرم العقلاء لجعلها صورة مشرقة، تنسجم مع المعنى الحقيقي للكرم، وتراعي ما أمر به الشرع الحكيم من إطعام الطعام، وإكرام الضيوف، دون إسرافٍ وتبذير، والقدوة في ذلك الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، فهم معروفون بالجود والكرم وحسن التعامل مع الناس دون مبالغة وتكلُّف، وفي سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعلِّقة بهذا الجانب ما يكفي ويشفي لمن أراد الاطلاع. جزى الله صاحب تلك الوليمة الشافية الكافية خيراً، وأكثر الله من أمثاله الذين يسلكون طريق التوسُّط والاعتدال. إشارة: أضاحك ضيفي قبل إنزالِ رَحْلِه ويُخْصبُ عندي والمحلُّ جديبُ