على الرغم من قول ربنا سبحانه وتعالى "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ", إلاّ أنّ مسألة جبر الناس وقسرهم على الإيمان بما يعتقده من يملك سلطةً تمكنه من فرض رأيه, لايزال قائماً وفي حالة تنامٍ غريبة,ولا زالت التخريجات العجيبة والتفسيرات المتمحكة تحاول تفريغ الآية الكريمة من معناها الواضح والصريح, ومن دلالتها العقلية الملازمة لطبيعة المعتقدات,إذ لا يمكن تصور وجود معتقدٍ أو ديانةٍ تقوم على الجبر والإكراه.فكل ما كان من المعنويات التي مكانها القلب والعقل كان خارجاً عن سلطة البشر ومقدرتهم على التغيير بالجبر ,فكل مايستطيع البشر القيام به تجاه هذه الأمور المعنوية الباطنة هو تقديم الحجج والبراهين والأدلة لأصحابها ثم تركهم لعقولهم بعد ذلك, وهذا كما يقول ربنا" ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدي من يشاء" وكما يقول سبحانه "قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين" وهذا يبين أنّه كان في مقدرة ربنا أن يخلق الناس جميعاً مهتدين صالحين, ولكن ما حكمة الخلق والجزاء والحساب والعقول لو كان الأمر كذلك؟. وكما لا يجوز جبر الناس للخروج من دينهم فلا يجوز جبرهم للدخول في الدين ابتداءً,ولا يجوز جبر الناس على القيام بالطاعات والقربات,حيث أنّ الجبر يتنافى مع طابعها التعبدي الاختياري الذي فُرضت من أجله.ولذلك لم تُفرض الحدود في الإسلام على المعاصي التي يرتكبها العباد فيما كان بينهم وبين ربهم,فكل الحدود في الإسلام جاءت فيما كان ضرره متعدياً لغير صاحب المعصية كالسرقة والزنا والقذف وغيرها,أمّا المعاصي الخاصة بين العباد وربهم مما لا يتعدى ضررها للغير فليس لها سوى التوبة والاستغفار والكفارة وهذا مما لا يد للبشر فيه ولاحق لهم في الإكراه عليه, وكما أنّ التوبة في الأساس أمرٌ قلبي لا يعلم غير الله بصدقيته,فكذلك كل ما كان من الطاعات والواجبات الظاهرة والباطنة لا يعلم صدقه ومدى إخلاصه إلاّ الله سبحانه.ولذلك كان توافر الاختيار الكامل والاقتناع الذاتي هما أساس التكليف وركناه, والذي لا يستقيم معنى للخلق والعبادة والجزاء إلاّ بهما. كان ذلك الوضع الطبيعي والعقلاني هو واقع مجتمعنا في مرحلة ماقبل المد الصحوي,قبل أن يتم تصنيف الناس ووزن تقواهم بميزان التقيد بالمظاهر الصحوية التي تم تضخيمها وأطر الناس عليها, مثل طول اللحية وقصر الثوب في شأن الرجال وعباءة الرأس وتغطية الوجه والكفين في شأن النساء وعدم سماع الأغاني,ولذلك تجد في أوساط الصحويين من يمارس الغيبة والنميمة والكذب وربما ماهو أكبر من ذلك,ولكنك لن تجد في جلساتهم أو مخيماتهم من يستمع للغناء علناً او من يحلق لحيته! وحينما يكون هذا التورع بشكله القاسي والصارم ممتنعاً عن مقارفة الصغائر والأمور الخلافية بينما هو غارقٌ في بعض الكبائر,عند ذلك يتضح أنّ المقياس الذي يرتكز عليه هذا التورع ليس مقياساً يعتمد الحل والحرمة في مقاربته, بل يصبح مقياساً يترفع عن ماتم التوافق الضمني على مخالفته للصحوة ولمفاهيمها فقط, وليس للدين ومقاصده الكلية بالضرورة.وقد كانت نتيجة ذلك التديين القسري والجبري الذي مارسته الصحوة طوال العقود الثلاثة الماضية هي نشوء هذا المجتمع الغريب والمتناقض حد الجنون,هذا المجتمع الذي يبدو نفاقياً في أغلب مناحيه وتفاصيله,لا أعني بذلك فقط الجانب الظاهري له بل حتى دقائق التفاصيل والعلاقات الإنسانية فيه,حيث أصبح الناس يلتزمون بما يرى المجتمع خيريته تجنباً لنقد الناس ولومهم وأذاهم وليس إيماناً منهم بذات القيم وخيريتها,وساءت ظنون الناس فيما بينهم وغابت العفوية والحميمية من حكايا الناس ومن قلوبهم,وأصبحت قيم الثراء والتظاهر والتباهي هي القيم المحركة للغالبية.( يتبع ) Twitter: @knfalamri