عندما قال الفيلسوف الفرنسي ديكارت في يوم من الأيام «أنا أفكر إذا أنا موجود» لم يكن مائلاً في ذلك عن الحق، أو شاذاً عن حقيقة وجود الإنسان فوق هذه الأرض، فالرجل كان واعياً بأن الإنسان لا يتميز عن سائر الخلق إلا بميزة التفكير، وملكة العقل، كما كان صادقاً كون التفكير هو جوهر الوجود والتمكين. وقد لا أكون مبالغاً إذا ما قلت أن ديكارت كان بإمكانه أن يبهر كل من يقرأ له من خلال ما وضعه من فلسفة راقية، ويعطي لمدلول مقولته «أنا أفكر إذا أنا موجود» بعداً أكثر وزناً، لو أنه نظر في كتاب الله القرآن الكريم، ليرى بأم عينيه ما فاض به هذا الكتاب من آيات تحث على التفكير، وتجعل المفكرين والمتدبرين في ملكوت السموات والأرض عند الخالق سبحانه وتعالى من صنف خاص لا يرقى إليهم سائر البشر العاديين. ومن دون الغوص في ما تحدث عنه القرآن الكريم من الآيات الكريمة الكثيرة التي تطالب بضرورة التفكير الصائب، والسير في جنبات الأرض من أجل النظر في خلق الله، فإن الحقيقة التي يجب الإشارة إليها أن الأمة العربية المسلمة التي وجه إليها الخطاب القرآني الداعي إلى ضرورة إعمال العقل، وتوظيفه في النظر والتفكير فيما ينفع ويضر، للأسف الشديد حادت عن جادة الصواب، وسلكت سبلاً متفرقة، وغرقت في بحر هائج ومائج لا يعرف له سكون، بل إن الأمة العربية المسلمة لم تعد تحسن من التفكير والتدبير سوى ما يجعلها في القاع الحضاري، ويبقيها في ذيل قافلة التقدم والرقي. إن الغرب عندما بدأ يخطو أولى خطوات التقدم وبناء حضارته التي نعيش في ظلالها في الوقت الحاضر سواء رضينا أم أبينا، أول ما أقدم عليه هو تحريك المادة الرمادية التي بالمخ، وتوجيه جهوده نحو احترام العقل، وكانت أولى نظريات التطور والبناء حكمة فلاسفة الاستنارة من أمثال، هيجل، وكانت، ديكارت، ليبنيتز، لوبون، وغيرهم الذين بفضلهم تمكن الغرب من تعبيد الطريق نحو المستقبل الذي يعيشونه في الوقت الحاضر. فما صنعه الغرب من منتجات حضارية كان وراءها الحث على ضرورة التفكير وضرورة التدقيق في هذا الكون الفسيح، والبحث الحثيث في قوانينه، وهذا الذي غفل عنه العرب وغفلت عنه أمة المليار ونصف المليار التي تدين بالإسلام، وتقرأ آيات التفكر والتدبر من محور طنجة إلى جاكرتا. أما نحن العرب فلم نستطع المحافظة على صرح كبير بناه الأولون ممن فهموا سنن الله في الكون وسادوا الأرض بالعدل والإحسان ، ففشلنا من بعدهم في المحافظة والاستمرار وكانت النتيجة تخلفاً على صعد عدة بفعل التفكير القاصر، والانحراف عن المقصد والمراد، وبدلاً من توجيه طاقاتنا الاستيعابية والتفكيرية نحو بناء الذات، والوقوف على خفايا الكون ولو بتقليد الآخرين في مثل هذا المجال، صرنا نتبع القشور من حياة الآخرين، ونصرف من أعمارنا وأوقاتنا – إلا من رحم الله – على توافه الأمور. وهذه طبيعة الأمم المتخلفة- لو صح لنا أن نقول ذلك- التي لا تبهرها الحضارة من منطلقاتها، ولكن تبهرها الحضارة من منتجاتها، ولدينا على سبيل المثال المنتوج الحضاري المتمثل في السيارات من كل الألوان والأصناف، فمن سابع المستحيلات أن تجد - إلا من رحم ربي- عربياً يتحرق كيف صنعت هذه السيارة، بقدر ما يتحرق على السيارة وكيف يقتنيها ويركبها؟!. والأمثلة كثيرة ماثلة أمام أعيننا في كل الدول العربية والإسلامية، كيف أن كل ما يتحرك في الشوارع من سيارات هو من صناعة الغرب، وليس للعرب أي بصمة في ذلك سوى قيادة هذه السيارات، والتباهي بها، والموت بها في الحوادث. وحدث ولا حرج عن المنتجات الأخرى، التي لا تجد عليها أي بصمة عربية سواء من قريب أو من بعيد، اللهم إلا تلك المنتجات التي عليها ماركة مفبركة، كما تقول النكتة العربية أن الألمان صنعوا منتوجاً ولم ينتبهوا إلى وضع اسم المنتوج وبلد الإنتاج إلا بعد أن صدروه إلى دولة عربية، فما كان من أهل تلك الدولة إلا أن وضعوا عليه الماركة التي يريدونها وكأن المنتوج صنع في مصانعهم غير الموجودة على أرض الواقع الإنتاجي. نكتة أخرى شاعت في السنوات الأخيرة، وموجهة خصيصاً للفرد العربي الذي أصبح خاملاً فكرياً لا يقدر على أن يشغل رأسه ربع ساعة من الزمن في شيء ينفعه وينفع أمته، تقول النكتة إن تاجراً يهودياً يبيع رؤوساً مختلفة للآدميين، من يابانيين، أمريكان، ألمان، وعرب، وقد كان الرأس العربي أغلى رأس في ذلك المتجر، بحيث أن بقية الرؤوس تقريباً تباع بأبخس الأثمان، وعندما سئل البائع اليهودي عن سر غلاء الرأس العربي مقابل الرؤوس الأخرى، فقال إن السبب بسيط كون الرأس العربي لم يشتغل إطلاقاً، فهو مثل السيارة التي لم تعمل وعدادها يكون في الصفر. إن السر يكمن في الجهل بنواميس الكون، ويكمن بالأساس في أن رؤوسنا خواء من العلم الصحيح فضلاً عن تقليدنا لغيرنا فيما لا ينفع، بل في كثير من الحالات هذا التقليد يضر بنا وبحياتنا، لا بد للأمة أن تشغل تفكيرها بما هو صائب، وتتحرك جوارحنا بالقلق الذي يسميه مالك بن نبي بالقلق الحضاري، وعندما نقلق بجد على وجه التحديد على مستقبلنا ونتأهب له ونعرف حقيقة أنفسنا. إننا الآن مجرد رقم في معادلة الاستيراد والتصدير للدول الغربية، ومجرد متلقين لنفاياتهم الفكرية والثقافية. وأستدل هنا بما أخبرني به أحد الأصدقاء أنه وقع على دراسة تظهر أن العرب هم أكثر الخلق استعمالاً للإنترنت لكن عندما يتعلق الأمر بالبحث في المواقع الجنسية الإباحية، فلقد أظهرت الدراسة أن معظم الذين يستعملون الإنترنت لا يستعملونه للأغراض البحثية أو العلمية أو ما شابه . هذا هو العقل العربي الذي نتوخى منه مجابهة الفكر الآخر الذي يعمل ليل نهار دون أن يكل أو يمل، وهذا هو الفكر العربي الذي نحلم أن يكون في يوم من الأيام قائد التفكير العالمي. إننا نشخص الداء لنجد الدواء الذي هو موجود : عودة صادقة لدين الله وتحريك للطاقات واستنهاض للهمم. فعل ذلك الأوائل فسادوا فهل نفعل مثل ما فعلوا ؟