إن كان تزامن صدور تقرير بالمر الذي يشرعن حصار غزة مع توجه القيادة الفلسطينية للأمم المتحدة لانتزاع اعتراف بفلسطين دولة يبدو مصادفة، إلا أن علاقة كبيرة تربط بين الحدثين، بل لا نستبعد أن نشر صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية للتقرير في هذا الوقت هو محاولة للتأثير على موقف القيادة الفلسطينية وردعها عن اللجوء للأمم المتحدة بعد أيام. التقرير الذي يعتبر حصار إسرائيل لغزة "قانوني"، صدر من نفس الجهة التي يتوجه إليها الفلسطينيون للاعتراف بفلسطين دولة، الأمر الذي يثير شكوكا ليس فقط حول نجاح المسعى الفلسطيني، بل أيضا حول مصداقية الأممالمتحدة وحول رهن مصير القضية الفلسطينية بهذه المنظمة الدولية. تقرير بالمر تجاوز النزاع بين تركيا وإسرائيل حول سفينة مرمرة إلى إعلان موقف سياسي قانوني خطير يسيء للشعب الفلسطيني ولمصداقية الأممالمتحدة نفسها، وليربك العلاقة ما بين الفلسطينيين والأممالمتحدة، ولا يجوز التخفيف من خطورة التقرير بتوجيه التهم لرئيس لجنة التحقيق بالمر، فبمجرد صدور التقرير يصبح معبرا عن موقف الأممالمتحدة. كما أن توجه تركيا لمحكمة لاهاي بشأن البحث بقانونية الحصار على غزة سيكون مفيدا لتأليب الرأي العام العالمي على إسرائيل، ولكنه لن يغير كثيرا من واقع الحصار، فقد سبق لمحكمة لاهاي أن أصدرت رأيا استشاريا حول جدار الفصل العنصري في الضفة وكان منصفا للفلسطينيين ولكنه لم يغير من الواقع شيئا. الجزء من تقرير بالمر الذي يتطرق للعلاقة بين تركيا وإسرائيل وطلب الأمين العام للأمم المتحدة من تركيا وإسرائيل وقف التصعيد وإعادة العلاقات بينهما أمر يخص البلدين، وإن كان للخلاف بين البلدين جانب يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية فإنه في الجوهر خلاف وصراع على النفوذ في المنطقة بين دولتين لكل منهما مشروعها في المنطقة؛ ونظرا للعلاقات التاريخية بين البلدين وطبيعة علاقتهما بواشنطن وبحلف الأطلسي فإن التصعيد لن يتجاوز حافة الهاوية، ومن المتوقع عودة العلاقة وتسوية الخلاف بين البلدين، ولكن ما يعنينا هنا في التقرير تلك الجزئية الخطيرة التي تضفي الشرعية على حصار إسرائيل لغزة. فهذا التقرير "الدولي" يشوبه خلل قانوني وشطط في الرؤية السياسية، فإذا كانت الأممالمتحدة تعتمد على القانون الدولي في إضفاء شرعية على حصار إسرائيل لغزة أو تعتبر أن حصار إسرائيل لغزة جزء من الصلاحيات الأمنية الممنوحة لإسرائيل، حسب اتفاقات أوسلو التي نصت على أن الأمن العام والخارجي للضفة وغزة من صلاحيات إسرائيل أو من صلاحياتها كدولة احتلال، فإن واضعي التقرير الأممي تجاهلوا أن القانون الدولي لا يتجزأ ولا يجوز انتزاع جزئية منه وتفسيرها سياسيا حسب المصالح السياسية والتوازنات الدولية الراهنة. أيضا اتفاقية أوسلو رزمة واحدة، ولا يجوز لإسرائيل أن تتمسك بجزئية منها وتتجاهل بقية الاتفاقية، ذلك أن الاتفاقية ولواحقها تنص على أن مدتها خمس سنوات فقط- تنتهي في مايو 1999- وأن الاتفاقية تنص على أنه لا يجوز اتخاذ خطوات أحادية تغير من الواقع الجغرافي والحياتي لسكان الضفة وغزة، وحتى إن لم يتم الإعلان رسميا عن نهاية اتفاقية أوسلو أو إلغائها فإن اجتياح إسرائيل للضفة الغربية في مارس 2002 ثم الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة في سبتمبر 2005 أنهى الاتفاقية عمليا وخلق واقعا جديدا، تجاوزت فيه إسرائيل بممارساتها اتفاقية أوسلو والقانون الدولي بشكل عام، كما أن مسؤولية إسرائيل كدولة احتلال- وغزة ما زالت خاضعة للاحتلال الإسرائيلي- تفرض عليها توفير المتطلبات الحياتية للشعب الفلسطيني في الضفة وغزة ويحرم عليها القانون الدولي فرض الحصار الاقتصادي على الشعب الخاضع لمسؤوليتها. سياسيا، فإن التقرير يضع الأممالمتحدة في مواجهة الرأي العام العالمي وفي مواجهة المنظمات الحقوقية الدولية التي أدانت الحصار وأدانت الممارسات الإسرائيلية، سواء في غزة أو الضفة، بل إن التقرير يضع الأممالمتحدة في مواجهة نفسها ويكشف التناقض والارتباك الذي يسودها، ذلك أن تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أدان الحصار، وقبله كان الرأي الاستشاري لمحكمة لاهاي الدولية بشان الجدار الذي أدان الجدار وأكد أن غزة والضفة أراض محتلة لا يجوز لإسرائيل القيام بأي أعمال من شأنها الإضرار بمعيشة وبالمصالح الحيوية لسكان المناطق المحتلة. هذه الازدواجية في المعايير والتسييس الواضح لتقارير وقرارات الأممالمتحدة هو الذي يثير المخاوف حول توجه القيادة الفلسطينية للأمم المتحدة والمراهنة عليها لإنصاف الشعب الفلسطيني من خلال الاعتراف بحقه بدولة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وهما منطقتان تعترف الأممالمتحدة من خلال قراري مجلس الأمن 242 و338 بأنها أراض محتلة. الخلل هنا لا يكمن في القيادة الفلسطينية ولجوئها للشرعية الدولية، ولكن يكمن في المبالغة في المراهنة على الأممالمتحدة. صحيح أنه من الصعب تصور قيام دولة فلسطينية مستقلة ضدا عن إرادة الشرعية الدولية ولكن هذه الإرادة الدولية، وكما أشرنا، تخضع لموازين القوى ومصالح الدول النافذة مما يتطلب أن يكون التوجه للشرعية الدولية مصحوبا بأوراق قوة أخرى. المفاوضات وقرارات الشرعية الدولية مثلها كمثل المقاومة والحرب، ليست أهدافا بحد ذاتها، بل وسائل لتحقيق الأهداف الوطنية، ولكونها وسائل فيجب عدم المراهنة كليا على أي منها دون الوسائل الأخرى.