تكرَّسَ في تراثنا العربي عامة والإسلامي منه بشكل أخص تعظيمُ شأن الحفظ والحث عليه وتبجيل أصحابه ووضعهم في أعلى الدرجات والمنازل والرتب، فنجدهم يصفون عالما مثلا بقولهم الإمام الحافظ العلامة الثقة المحدث المتقن الثبْت، أو يمدحون طالب علم بأنه يحفظ الآلاف المؤلفة من الأحاديث أو الأبيات، وترد في ذلك التراث أعداد لا تنتهي من الجمل التي يُفهم منها تعظيم شأن حفظ المتون وإتقانها وأن ذلك هو سبيل الرفعة والسؤدد كقولهم مثلا "من حفظ المتون حاز الفنون" وما شابه ذلك. ورغم أن القرآن الكريم يأمر بالتفكر والتدبر والتعقل " أفلا يتدبرون" "أفلا تعقلون" " أفلا تتفكرون"، إلا أننا نادرا ما نجد في نعوت البارزين والمشاهير في موروثنا الديني ما يدل على تطبيق هذه الأوامر القرآنية الكثيرة، فهل قرأ أحد منكم مثلا في تلك الكتب المتوارثة وصف أحد الرموز بالإمام المفكر، أو الإمام العقلاني، أو الإمام الفاهم المتدبِّر؟! ومن العجيب في ذلك أيضا أننا لا نجد أية إشارة عند علماء الجرح والتعديل لقدرة الراوي على استيعاب ما ينقله أو فهمه بشكل صحيح فضلا عن مناقشته العقلية له، فقد وضعوا للرواة عيوبا تنقص قيمتهم وتسقط روايتهم أو تضعفها ومن أبرزها سوء الحفظ وفحش الغلط والغفلة والوهم ومخالفة الثقات..الخ. والمصيبة الكبرى والطامة العظمى هي أن ضرر ذلك التهميش لشأن التفكير والإعمال العقلي ليس مقصورا على تلك العصور الغابرة فحسب، بل تعداه إلى العصور المتأخرة المتتالية حتى وصل إلى حاضرنا الذي نعيشه اليوم.فنجد غالب المعلمين في مدارسنا وجامعاتنا مثلا، لا يهمهم إلا أن يكون الطالب حافظا للمناهج قادرا على تفريغ تلك المحفوظات في أوراق الإجابة في الامتحانات حتى ولو كان بعيدا كل البعد عن الفهم الصحيح لما حفظ أو على القدرة على التفكير السليم فيه ومناقشته بعد استيعابه، ثم إبداء وجهة نظره حوله. إن حديثي السابق لا يعني انتقاصي للحفاظ أو التقليل من شأن حفظ ما ورد في تراثنا العربي الجميل بكل ما فيه من نصوص دينية أو أدبية أو غيرها، فهذا أمر جيد ومهم بلا شك، ولكن المرفوض -في رأيي- هو المبالغة في ذلك إلى درجة تُقتل معها ملكة التفكير وتغلق بسببها أبواب العقول بشكل شديد يصل أحيانا إلى انتقاص شأن المفكرين أو حث عامة الناس على تجنب التعمق في دلالات المحفوظ ومعانيه، أو محاولة ربطها بالدراسات العلمية الحديثة والتطور المعرفي المعاصر، ومناقشتها وبيان وجهات نظرهم الخاصة حولها.أليس من الجميل أن نستبدل مثلا قولهم (من حفظ المتون حاز الفنون) بقولنا: من فهم المتون وغير المتون، وأخضعها لعقله -قبل قبولها- حاز الفنون والقدرة على التفكير المثمر النافع له في حياته. أما آن الأوان لخلع رداء التقليد والتبعية وتقديس التلقين الأجوف الخالي من إعمال الذهن والقدرة على التحليل والحوار والنقاش، أما آن الأوان لتغيير حالنا البائس لعلنا نلحق ولو بآخر مقصورة في قطار التقدم والحضارة والإنتاج النافع والإبداع البشري الذي نرى شمسه تشرق في سماوات الأمم والشعوب المفكرة التي ملأت الأرض اختراعا واكتشافا وابتكارا فاق حدود الوصف في روعته وجماله وإتقانه.لقد أبدع القوم في صنع كل شيء، وأبدعنا نحن في استهلاك كل ما أبدعوه، وأبدعنا قبل ذلك أكثر وأكثر في حفظ المتون وإغلاق أبواب التفكير فعجزنا عن منافستهم أو محاولة منافستهم في مختلف مجالات الحياة.إن أمة تقدس حفاظها فقط، ولا تحترم عقول مفكريها ومبدعيها ومبتكريها ومخترعيها ونوابغها ولا تلتفت لهم في مختلف المجالات، لهي أمة تستحق بجدارة جميع نعوت التخلف والجمود والتقهقر والانغلاق.ودامت عقولكم مفكرة. [email protected]