سنوات طويلة مرت منذ ابتدأ محمد صادق دياب مسيرته في أذهان وقلوب الكثيرين.. حاملا إليهم جدة في صورتها الأبهى التي تملَّكته حتى أصبحا مترادفين حميمين. كانت جدة قضيته التي انبرى مدافعا عنها وموَّثقا لتاريخها وملامحها وسكانها. ولا أذكر حديثا مع محمد إلا وجدة حاضرة بعبيرها الذي مازال يمد إليها كثيرا من أنفاس أمس جميل ما زال ينتظر حاضرا يجاريه. هذي الهنداوية وهذا باب شريف وهذه حارة المظلوم.. وهذا.. وهذه..وبعده كثير من حديث عما كان وكيف أصبح وليت يكون. وتتسلل كثير من التفاصيل التي يتهامس بها البعض سرا، ويبوح بها محمد جهرا في ابتسامة لا يملك مثلها إلا هو.. وتعني أكثر مما يبدو! سأتجاوز شخصيته المصنوعة من رقة ولطف وأدب لا يتسلل إليه التصنع، فتلك يعرفها كل من قابله. لأتسلل متطفلا إلى كتاباته. وأجد أن محمد قد ابتكر من خلال علاقته الفريدة بجدة نمطا فريدا يجمع بين دقة التاريخ وحبكة القصة وسلاسة الشعر. تقرأ عن شخصيات جدة فتعرف عنهم ما يكفيك ولكن تحت سيطرة عزف محمد لا تملك إلا أن تُحس بهم وكأنك مررت بهم أو ببعضهم في زمن يملك تفاصيله محمد دياب الذي لا يتوقف عند الشخصيات وإنما يستمر ليجعلك تشعر بأجواء المدينة وانسياب أزقتها وشموخ مبانيها المطرزة بالرواشين. وعند محمد لكل باب حكاية ووراء كل روشان قصة وفي كل طريق علامة. كتب محمد في فنون شتى ولكنها تجتمع في براعته على التمكين من الاقتراب والإحساس بالتفاصيل الدقيقة. ولم يوثق الأمس القريب فحسب وإنما امتد مرات ومرات إلى امتداد جدة المدين للخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه. أدبية محمد المنبثقة من تنوع ثقافته وسعة اطلاعه هي شيء مختلف وطراز خاص.. فهو قد صنع دون أن يتصنَّع أسلوبا خاصا يمكن الاستدلال به عليه دون عظيم جهد. وكانت تلك الروح حاضرة حتى في مقالاته الصحفية. ومن المؤسف أن جانب اهتمامه بجدة وتاريخها قد طغى على قدرته الأدبية الفائقة البراعة في كتابة القصة والرواية. و «مقام حجاز» رواية من نوع فريد تتجاذبك فيه العواطف بين الشخصيات والأمكنة.. وإذ يشتد بك الحنق على شخصية أو مكان أو تصرُّف، لا تملك إلا أن تكتشف أنك غيرت اتجاهك إلى حيث أراد لك محمد.. وحينما لم يرد تصبح محتارا معه في طبيعة مشاعرك التي تكره «الكردي» إلى حد الإشباع ثم تعذره ثم تحبه.. أو تقف قبل ذلك قليلا.. «مقام حجاز» الذي أراد لنا محمد أن نستمع إليه.. أن نعود إليه باختيارنا.. كان دون أن يشعر محمد هو «مقام دياب». وسنظل نطرب له ما بقينا فذلك أقل القليل لذلك الذي لا أدري كيف ستحتمل جدة فقده.. كتبت له بيتين وهو يصارع المرض وبعثت بهما إليه.. ورد بأجمل منهما. بحثت عنهما ولم أجدهما، وكأنهما رحلا معه.. ولكني وجدت رسالتي الأخيرة: «لم أستطع الوصول إليك مؤخرا.. كنت أود مزيدا من الاطمئنان عليك. قرأت روايتك.. وخرجت منها لأحب جدة وأنت أكثر.. كيف لم تحدثك نفسك أن تخرج هذا منذ زمن.. !! مازالت جدة تنتظرك وتنتظر منك.. دمت بخير» رده كان اتصالا.. بدأه كعادته بالمتلازمة التي تميزه «سيدي» زاهر.. وا أسفاه يا سيدي..