عندما يُجبر الإنسان على التحاف الغربة من أجل أمور حياتية لم يستطع تحقيقها داخل وطنه فهذا أمر مستساغ وغير مستغرب.. ومع ذلك يظل الحنين للأرض، والشجر، والماء، ورائحة الخبز، وحضن الأم زاد يحمله المغترب أينما حل. وعندما تصادر الحريات ليجد الشخص نفسه مخيرا بين الموت وسجن الغربة فيختار القضبان الباردة لعله من خلالها يعاود التحليق لوطنه كطائر لفح ريشه برد الهجرة فهذه أيضا غربة حتمية لا بد من التأقلم مع قسوتها.. ولكن ماذا عن تلك الغربة التي تعاركنا ونعاركها داخل وطننا ؟ من المؤلم أن تشعر بالغربة وأنت في دارك تفترش التراب الذي تربيت فوقه وتلتحف السماء التي طالما روت جذورك.. غربة من نوع آخر تحاول التحاور معها لعلها تبرر لك ما تشعر به فلا تجد غير آذان صماء وعيون لا تبصر. تخيل نفسك وأنت تسير في دروب كل شيء فيها قاتم لا يدعو للفرح.. الكل يحاول بيعك بأغلى الأثمان.. في كل مرة تستجمع ما تبقى من قواك لتعيش ومع ذلك لا تستطيع رفع رأسك لأن القدم التي تدوسك أقوى منك. مساءً تجلس لوحدك تلف جسدك بشال أخضر لعله يمنحك بعض الدفء الذي بدأ يخبو شيئاً فشيئاً.. تحاور نفسك وتلقي عليها كماً من التساؤلات المزدحمة عن معنى الغرق والبطالة والفساد والموت واعتلال الصحة وسقوطي في التعليم وعن الكثير من الأشياء التي لم تراودنا في أحلامنا. ما أبشع الغربة التي تكبر معك يوماً بعد يوم حتى تصبح كملامح وجهك التي تعودتها منذ زمن، قاسية بما فيه الكفاية لتجعل منك كومة من الأشياء المبعثرة داخل محيط من الظلام.. تصرخ و بداخلك بعض الأمل في سماع صوتك وانتشالك ولكنك تنطفئ سريعا فالكل يسمع ولا يجيب.. وربما غيرك يصرخ أيضا حتى بات هذا الصراخ يشعرهم بشهوة التلذذ بأجساد الغرباء. هل من المعقول أن أبحث في داري عن لقمة أتقاسمها مع دود الأرض وجرعة ماء آسنة وزاوية كئيبة أمد فيها جسدي الرث والدار فسيحة تعج بالخيرات ؟ لماذا كلما تلوت على روحي تسابيح الأمان لتهدأ وتنام يأتي من يقذف بداخلها الفزع دون خوف من عقاب ولا خشية ؟ ولماذا تساق بعض الوجوه أمامي لساحة الجلاد فقط لأنها حاولت أن تتنفس وهناك من يمص دمي وفرحي، و يرتقي في أبراج السماء وأنا أُطمر دون ذنب في مقابر الأرض ؟ غربة متوحشة لم يجرؤ أحد على ترويضها، تقتات علينا بصمت، والطريق طويل معها، والدور قادم فما هي سوى لحظات من المتعة تنعم بها ولحظات من الشقاء نتجرعها كطعم الصبار المزروع في صحراء مزقها العطش.