ما أشبه اليوم بالبارحة، قالتها رشا بصوت يشوبه الحزن والآسي وهي تحمل بيديها صورتين، صورة للمسجد الأقصى وصورة للمسجد الجامع بقرطبة، وتضيف بأن تصفحها عبر الانترنت، وهي تبحث عن ملابسات سقوط قرطبة وضياع مجدها بضياع مسجدها الجامع، جمعها بقصيدة رائعة للشاعر الفيلسوف محمد إقبال، كان قد نظمها وهو يزور المسجد الجامع بقرطبة عام 1932 م، وأخذت تردد على مسامعنا أبيات القصيدة بعد أن اعتذرت مقدما عن ركاكة الإلقاء، وأخذتُ أسمعها وأسجل أبيات القصيدة، ومنها: قصر التاريخ ومسجدهُ ما أروع ما صنعتْ يدهُ للقوم بصدر حكايته صوت ما زال يردِّدهُ ظمأ لا رِيَّ له وبه طلب الظمآن ومقصدهُ يزداد برؤيته ولَهًا ويريد يقوم فيقعِدهُ وكأن علائق زينته خفقات القلب ومعقدهُ في الصخر فنون سرائرنا بلطائفنا نتعهدهُ ليَهيج رنينُ جوانبه بأنين الروح نُزوِّدهُ يا ظل الغرب ودوحته من ذا تاريخك يجحده ؟ بك أضحت تربة أندلسٍ حرما في الغرب نمجِّده لا نِدَّ له في سؤدده إلا الإيمان وسؤددهُ عربيُّ اللحن حجازيٌ روح الإسلام تخلِّدهُ يمنيُّ العطر تهبُّ به أنسام الشام وتحشدهُ يحكيك جمالا وجلالا رجلٌ لله تعبُّدهُ وحماسُ ضحاه ووجدُ مساه وما يخفيه له غَدهُ ومسرَّته ومحبَّته وتواضعه وتودُّدهُ عذب الكلمات خفيف الروح رقيق القلب مسهَّدهُ أبديُّ الحب نقيُّ الحرب مَصون العرض مهنَّدهُ وعلى يده لله يدٌ بلطيف القدرة تعضُدهُ العالم قصر خلافته وسماء العالم معبَدهُ وتوقفت رشا عن متابعة أبيات القصيدة لتعطى صدرها فرصة إطلاق تنهيدة حزينة أخرى، ومن ثم اتجهت نحو الحضور لتقول بأن قوم والدتها العرب، وعشاق لغة القرآن من غير العرب، يطربون للشعر نظما وترديدا مهما كانت مناسبة القصيدة، فهذه الأبيات قيلت بحق مسجد جامع توقف عن أداء رسالته الخالدة عام 1326 ميلادية بعد أن كان منارة للعلم وواحة للعلماء على مدى خمسة قرون، والمتسبب في سقوطه انفراط عقد دولة الأندلس المسلمة، وتكالب القادة على الحكم بعد أن تجزأ الوطن إلى قطع كالشطرنج، ووقف فوق كل قطعة من الجسد الممزق قائد لمملكة تناصب أختها المجاورة العداء،يهادن العدو المشترك ويدفع له الإتاوات ليقف بصفه في وجه أخيه، تماما كما يجري اليوم في أقدس مقدسات المؤمنين بالله الواحد الأحد، في القدس، التي أوشك مسجدها الأقصى على السقوط في أيدي من سرقوا الوطن والتاريخ، والمؤسف أن الأهل هناك، يقرون بأن سقوط المسجد الأقصى - لا قدر الله - سقوط لبقية مقدسات المسيحيين والمسلمين، ويكون نصيبكم منها، أنتم يا عرب، مسلمون ومسيحيون، نصيب أهلنا في قرطبة عندما سقط مسجدها الجامع، وفي غرناطة عندما تسلم الملكين الكاثوليكيين مفاتيح المدينة من خليفتها المسالم وكان نصيبه النفي والخروج من ملكه ومن الأندلس مشردا ذليلا مهيض الجناح، تاركا أمة الإسلام في أندلسنا المسلمة تواجه تصفية عنصرية شرسة أتت على الإنسان وعلى ما أبدعه خلال قرون عديدة في مختلف فنون العلم والمعرفة، وقذفت بمن رغبوا الحفاظ على هويتهم العقائدية إلى ما وراء البحر. وها نحن - أحفادهم اليوم- نطرب لقصيدة من هنا وإشادة من هناك تعطينا فرصة الترحم على الزمن الجميل وتقوم مقام حقنة مهدئة تساعد على تحمل ما هو قادم من آلام. تنهيدة أخرى وتتبعها ببيت شعر مأثور: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي وتهمس بأذني لتسأل من قائل هذا البيت وما المناسبة، فأحلتها إلى موسوعة الأستاذ حسن الكرمي – يرحمه الله – التي تحمل عنوان "من القائل وما المناسبة" تجدها فوق أرفف مكتبتي المتواضعة. مدريد في 9-10-1430 الموافق 29-9-2009