جلس في ظل نخلة حساوية أصيلة جلبت إلى بستان "البديعة" للتو وكانت الشمس ذلك الصباح نافورة من اللهب وأنا الفريسة المدماة التي تتقافز مذعورة بين الجبل والأسفلت. ولابد لي أن أضع حداً لمطر الأسئلة والضجيج وأغادر قبل سقوط الليل الجالب لتذكار الليالي والأيام! كنت أتذكر انسياب الفرح الجميل وهو يتعرج في أغصان قلبي كنهر عذب في ظمأأ الصحراء يوم عدت إلى أهلي وأحبائي في الوطن بعد عام من الشوق والضياع! تركت ورائي المدن السحرية الغامضة وتغريد البلابل الجميلة على أرصفة اللقاء والانتظار وقلت بلادي أجمل ولو "غمرني غبار" شارع المرقب!! وفي ذلك الصباح الصيفي الحارق كنت أحمل أوراقي وأركض من دور إلى دور ومن وجه إلى وجه، أريد تذكرة الإياب إلى مقعد الدراسة في تلك البلاد البعيدة... وفي لحظة ما اكتشفت أنني غريب في موقع طفولتي وأنني ضحية نظارتي الكبيرة وسحنتي المميزة وهذه هي القضية ولا شيء أكثر! وسألني الموظف وقال ومن تكون؟ لم يسألني عن غربتي ودراستي ولا عن لهفتي للمشاركة غداً في ابتلال الرمل وخضرة الأفق والتحول العظيم ضمن حقب التاريخ، كما قلقاً من خلال "نظارة وسحنة" .. أما أنا فقد ألغيت فكرة السفر بالطائرة مع أن التذكرة من حقي كطالب وسافرت على سطح باخرة وابتهج البحر بمن فيه من مخلوقات جميلة كانت رحلة ماتعة بأهلها وشبابها الغض! هاهو صباح آخر أكثر تفتحا وجمالاً ووطني يموج بالخصب والمدن المشرقة والعصافير الصغيرة التي تدق على زجاج النوافذ العالية في قصور البديعة بمناقيرها الحمراء، تذكرت من يقول لي : أنت جميل الروح واصيل ليته ذلك الموظف المشغول بسؤالي ومن أكون؟! يرى اني لا أكاد أمسك بشيء.. لقد ذهب ذلك الزمن الجميل بين حروف الكلمات مما جعل لصاحب العيون الزائغة والخارجة من محاجرها هيبة وسطوة ! كانت ثم ذهبت ! أو من افتعل شكلاً لشخصيته يخدع من حوله فالناس أيها المسكين القادم من آسيا "الصغرى" أكثر إدراكاً مما تتصور !! وهم يشمون عن بعد راحئة الشللية وما تفعله وسكت هذا الشاب الذي يبحث عن مستقبله حتى تحت الحجارة وبين الأشواك!