بعد أن توالت فصول الأزمة المالية العالمية، وألقت بشقيها المالي والاقتصادي على الاقتصاد العالمي، من خلال التأثير السلبي في كل من: موازين المدفوعات والميزانيات، والاستثمارات الوطنية والأجنبية والبورصات (أسواق المال)، والبنوك والشركات.. وفي إطار سعي الجميع لإيجاد الآليات المناسبة لتجاوزها، ظهرت معطيات مختلفة تمامًا تهدد مصير الاقتصاد العالمي، حيث تتزايد المخاوف بشأن التأثيرات الاقتصادية للأمراض والأوبئة التي تفشت في الفترة الأخيرة بشكل خطير، والتي كان آخرها ظهور ما يسمى بمرض "أنفلونزا الخنازير"، الذي أعلنت انتشاره منظمة الصحة العالمية منذ أيام، بكل من المكسيكوالولاياتالمتحدة، وحذرت من ارتقاء خطورته إلى مستوى عالٍ، خاصة مع تزايد أعداد المصابين به من جهة، واتساع رقعة انتشاره من جهة أخرى. حقيقةً لم يكن هذا الأمر بالجديد على الاقتصاد العالمي؛ فخبراء الصحة هذه الأيام يتحدثون عن انتشار متزايد للأمراض المعدية على مختلف أنحاء العالم المتقدم والنامي على السواء، فحسب الإحصائيات الحديثة، فإن ما يقرب من 40 نوعًا من الأمراض المعدية الجديدة ظهرت خلال ثلاثين عامًا الماضية أول مرة، وهو الأمر الذي يلقي بظلاله العكسية على معدل القوى البشرية في العالم بشكل كبير، ففي عامي 1977 / 1978 أدى الوباء الكبير ل "حمى الوادي المتصدع" الذي تفشى في مصر، على سبيل المثال، إلى إصابة 200000 حالة بشرية، و600 حالة وفاة، وبعدها بعشرين عامًا، أصاب وباء جديد بفيروس شرق النيل أكثر من 500000 شخص في شرق افريقيا، وتوفي 500 شخص نتيجة للإصابة بالنمط النزفي من المرض. وبالإضافة إلى المعاناة البشرية التي تسببها الأمراض والأوبئة، فإنها تحدث هلعًا وتمزقًا في البنية الاجتماعية والاقتصادية، ويمكنها أن تعوق التنمية في المجتمعات الموبوءة، فلقطاع الثروة الحيوانية دور هام في التنمية الاقتصادية للعديد من البلدان، نظرًا لما تولده من دخلٍ، وفرص عمل، وعملة أجنبية، لجميع أصحاب المصالح في الصناعات الحيوانية والصناعات الأخرى المرتبطة بها.ففي المكسيك - بلد المصدر لمرض "انفلونزا الخنازير"- تسبب انتشار هذا المرض في إحداث خسائر للمؤسسات المالية لديها وتراجع "البيزو" المكسيكي" بنسبة 8،2%، في حين تراجع الطلب الأمريكي على البضائع المنتجة في المكسيك، الأمر الذي قد يفاقم أزمة البلاد الاقتصادية، بعد أن دخل نموها في مرحلة الانكماش بأكثر من 4% للربع الأول من العام الجاري، وجرى طلب منع التجمعات والمناسبات العامة في المكسيك، ما أدى إلى دخول البلاد في حالة الشلل الاقتصادي، مع إغلاق المدارس والجامعات والحانات والمطاعم حتى 6 مايو 2009 على إثر هذا المرض. وفي السياق نفسه أظهر استقصاء أجرته منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة حول مرض "انفلونزا الطيور"، فقد 20% من العمال الدائمين في المزارع الصناعية أو التجارية لوظائفهم، في إندونيسيا. وبالمثل، أدى تفشي مرض "التهاب الجنبة" و"الرئة" البقري في بتسوانا إلى إعدام أكثر من 300000 حيوان في المقاطعة الأكثر تضررًا، والإغلاق الفوري للمجزر، الذي كان يعمل به 200 فرد. وتقدر منظمة الأغذية والزراعة والمنظمة العالمية لصحة الحيوان أن ما بين الثلث إلى النصف من السكان الذين يعيشون في أكثر المناطق تضررًا بمرض "انفلونزا الطيور"، في جنوب شرق آسيا، يعتمدون على مزارع تربية الدواجن في توفير جزء من دخولهم على الأقل. وفي فرنسا، البلد الأوروبي الرائد في إنتاج الدواجن، قدرت خسائر المزارعين المتضررين من أزمة "انفلونزا الطيور" بنسبة 40% من دخولهم في غضون ثلاثة أشهر.. وهو الأمر الذي يتسبب في فقدان مستوى الرفاهة، التي يتمتع بها الأفراد، خاصة إذا لم يكن الفرد يمتلك سوى القليل من البدائل، أو كان يعتمد كليًا على المنتج المتضرر، وغالبًا ما يكون الحال هكذا في البلدان النامية، ولاسيما في حالة ما إذا كان الاقتصاد يعتمد على واحد أو بعض من المنتجات المعرضة للخطر؛ إذ إنه من الممكن أن يتهدد الأمن الغذائي المحلي. وفي ظل عصر أصبح العالم فيه كقرية صغيرة، لم يعد الأمر يقتصر على الآثار الاقتصادية التي يمكن أن تترتب على البلد الذي ظهر به المرض فحسب، بل يمكن أن تمتد إلى باقي العالم نتيجة عمليات التبادل التجاري وانتقال الأفراد من دولة لأخرى. فمن ردود الفعل في بلدان أخرى بسبب الهلع من الوباء الأخير، كان الحد من السفر أو تقييده من وإلى البلدان التي توجد بها حالات إصابة بالمرض، كما يتم فرض قيود على استيراد أغذية معينة من تلك البلدان، وهو ما يؤثر بدوره في التجارة العالمية وحركة تبادل السلع والسياحة من جهة أخرى، خاصة أن ظهور المرض جاء في وقت يترنح فيه الاقتصاد العالمي ككل تحت تأثير الأزمة المالية. ومن تأثيرات الأزمة الأخيرة لمرض "انفلونزا الخنازير"، تراجع مؤشرات الأسواق المالية؛ حيث لجأ المستثمرون إلى بيع الأسهم نتيجة المخاوف أن يؤدي المرض إلى المزيد من التباطؤ في النشاط الاقتصادي عالميا، على خلفية المخاوف المرتبطة بإمكانية تحول المرض إلى وباء، في حين تعرضت أسهم شركات الطيران والمطاعم لخسائر كبيرة بعد الحديث عن ظهور إصابات في دول أوروبية. بالمقابل، شهدت أسعار أسهم بعض الشركات المصنعة للأدوية، وبينها شركة "روش" ارتفاعًا ملحوظًا في التعاملات الأوروبية، وذلك بسبب التعويل على أن يكون لعقار "تاميفلو" تأثير ناجح في احتواء المرض، الأمر الذي ذكّر بمكاسب مماثلة حققتها الشركة بعد ظهور انفلونزا الطيور. فيما انخفضت أسعار النفط أكثر من 4% لتقترب من 49 دولارًا للبرميل، نتيجة تأثره بتحركات المستثمرين الذين يقومون برصد مؤشرات على انتعاش اقتصادي، تؤدي إلى انتعاش الطلب على الوقود وأي تأثيرات سلبية ستؤثر سلبًا في انتعاش كان متوقعًا، وهنا ظهرت مخاوف من الآثار السلبية لتفشي "انفلونزا الخنازير" على الاقتصاد العالمي.. أما في أسواق الصرف فقد تراجع الدولار الأمريكي واليورو الأوروبي أمام العملات الأخرى؛ إذ دفعت المخاوف بشأن المرض المستثمرين للإقبال على العملات التي تعتبر ملاذًا آمنًا، مثل الين والفرنك السويسري.. وجاء ذلك في وقت تعاني تلك القطاعات أصلاً التراجع إثر التباطؤ في الاقتصاد العالمي بسبب الأزمة المالية العالمية. يشار إلى أن صندوق النقد الدولي كان قد قدّر عام 2008 كلفة أي انتشار وبائي لمرض الانفلونزا حول العالم بأكثر من ثلاثة تريليونات دولار، مع إمكانية أن يتسبب في تراجع النمو العالمي بأكثر من 5%، ما يعني أن أزمة الركود الاقتصادي الحالية قد تتحول، وفق هذه التقديرات، إلى انكماش طويل. ولنا في أثر مرض "سارس"، الذي كان عاملاً رئيسيا في توتر المستثمرين في المنطقة مثال، حيث تراجع النمو الاقتصادي في الصين في العام الذي انتشر فيه الوباء إلى 7،5% مقارنة بتقدير سابق بنسبة 7،7%، كما انخفض النمو الاقتصادي في هونغ كونغ إلى 2،4% من 2،5%، في حين تراجع في سنغافورة إلى 3% من 2،4%. بينما كان البنك الدولي قد قدّر إمكانية أن تصل التكلفة التي يتحملها الاقتصاد العالمي من جراء حدوث وباء "انفلونزا الطيور" بين البشر إلى ما بين 25،1 إلى 2 تريليون دولار أمريكي - أي حوالي 1،3 % من إجمالي الناتج المحلي العالمي. هذا بالإضافة إلى تكاليف الوقاية أو المكافحة من الأوبئة، فقد طلب الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" من الكونجرس، على سبيل الاحتياط، أن يدرج في الطلب الذي قدمه مطلع الشهر لإضافة مبالغ إلى موازنة 2009، مبلغًا قدره 5،1 مليار دولار لتحسين قدرات الولاياتالمتحدة على مواجهة انتشار "انفلونزا الخنازير". وفي فيتنام، على سبيل المثال، التي تعد أكثر البلدان تضررًا بانفلونزا الطيور، تم إعدام ما يقرب من 44 مليون طائر - أي 17% من تعداد الدواجن في البلد- مما شكل خسارة قدرت بمبلغ 120 مليون دولار أمريكي (3،0% من إجمالي الناتج القومي). وفي افريقيا، لم تؤثر حالات الإجهاض التي تسبب فيها فيروس "حمى الوادي المتصدع" على معدلات الولادة وحسب، ولكن قلص الإجهاض من الاستهلاك الآدمي للألبان في العام التالي لتفشي المرض، نظرًا لانخفاض معدلات إنتاج اللبن. وفي قطاع مزارع إنتاج الألبان في كينيا، شكلت الخسائر في إنتاج الألبان ما قدر بنسبة 30% من إجمالي الخسائر التي تسبب فيها تفشي "الحمى القلاعية" في ثمانينيات القرن الماضي. وكذلك ظهرت آثار خسائر الإنتاج في المنتج حامل المرض أيضًا بإحداث تغيراتٍ سِعرية، نتيجة وجود اختلال في التوازن بين العرض والطلب، فربما ترتفع الأسعار ارتفاعًا حادًا، نتيجة شح المنتج في السوق الداخلية، أو ربما تهبط الأسعار، نتيجة حظر تصدير المنتج مع السماح بتوزيعه للاستهلاك في السوق المحلية، أو اعتبار المنتج شديد الخطورة للاستهلاك الآدمي، أو تصور ذلك. ومن شأن فقدان قدرة الوصول، أو فقدان فرصة الوصول، إلى الأسواق الإقليمية والدولية، أن يكون له، بصفة عامة، انعكاسات اقتصادية أكبر من مجرد الخسائر في الإنتاج، ففي عامي 1997 / 1998، أثر تفشي "حمى الوادي المتصدع" في شرق افريقيا على الاقتصادات الرعوية في الصومال، مع انخفاض التصدير بنسبة تزيد على 75%، التي تولد ما يزيد على 90% من العملة الأجنبية في "أرض الصومال"، بعد أن أعلنت المملكة العربية السعودية حظرًا على جميع المنتجات الحيوانية المستوردة من القرن الافريقي. ومن الممكن أيضًا أن يؤدي فقدان الثقة من جانب إحدى البلدان المستوردة إلى إطلاق شرارة حظر دائم للاستيراد وانعكاسات اقتصادية واجتماعية كبرى، كالحظر الذي فرضته بلدان شبه الجزيرة العربية على بلدان القرن الافريقي، التي أصيبت بفيروس "حمى الوادي المتصدع" كما سبقت الإشارة. ومع مرض "انفلونزا الخنازير"، فعلى الرغم من أن منطقة الخليج تعد من إحدى المناطق القليلة في العالم التي تخلو من الخنازير الحية؛ نظرًا لالتزامها بأحكام الشريعة الإسلامية التي تحرم أكل لحومها - فيما يستورد عدد محدود من التجار ببعض تلك الدول لحوم الخنازير للأجانب المقيمين فيها- فإنها بدأت هي الأخرى أخذ حذرها، إذ دعت قطر لعقد اجتماع خليجي طارئ لمواجهة مرض "انفلونزا الخنازير"، بمشاركة خبراء منظمة الصحة العالمية والمختصين بدول مجلس التعاون تحت مسمى "المؤتمر الخليجي العلمي لدراسة الإجراءات الاحترازية ضد فاشيات الانفلونزا"، فيما عزز باقي دول الخليج الأخرى الإجراءات الاحترازية للوقاية من المرض. الجدير بالذكر أن العالم بات يتخبّط في فوضى، فالأحداث من قبيل تغيّر المناخ - الذي من الممكن أن يكون سببًا رئيسيا في تلك الأوبئة - ليست من انحرافات السوق أو انحرافات الطبيعة، بل إنّ تلك الانحرافات من المؤشرات على القصور الشامل للنُظم الدولية التي تحكم طريقة التفاعل بين الدول وسكانها، نتيجة التصرفات التي أضرت بالبيئة من حولنا. وليس هذا وحسب، فكما لعبت العولمة دورها في تصدير الأزمة المالية العالمية لباقي دول العالم، أظهرت دورها أيضًا في تصدير الأوبئة والأمراض من دولة لأخرى عبر حركات انتقال الأفراد وانتقال السلع، كما كان للعولمةِ دورٌ آخر في صعوبة القضاء على تلك الأوبئة والأمراض؛ حيث تسبب تحرير التجارة وخفض الإيرادات المتأتية من التعريفات الجمركية بشكل حاد، في وقت لم يعد هناك مورد بديل لتمويل الخدمات العامة، بما في ذلك الرعاية الصحية، وقد شكّل كل ذلك كارثة في مجالي الصحة والحماية الاجتماعية في العديد من البلدان، في حين تكلف حملات القضاء على الأوبئة ميزانيات الدول الملايين والمليارات. ومن هنا نرى أنه إذا كانت الجهود قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، في مجال توفير الدواء - خصوصًا للبلدان الفقيرة - تسير بصورة لا بأس بها، وكان العالم يتطلع إلى مزيد من الحفز والتطوير لهذه المبادرات، فإنه إزاء الوضع الآن ومع احتياج كل دولة لكل دولار من أجل مكافحة الأوبئة، ومن أجل تجاوز الأزمة المالية العالمية، لم يعد أمام الدول الفقيرة، إلا مراجعة التاريخ الحديث لا القديم لكي لا تجهد نفسها كثيرًا - لتعرف أن إقدام الدول على خفض الميزانيات الخاصة بالرعاية الصحية ومكافحة الأمراض المزمنة والمستعصية، خلال أزمات اقتصادية سابقة، مثل الأزمة النفطية والركود العالمي، تسببت في مشكلات خطيرة في المناطق الأكثر فقرًا حول العالم، وهو ما يتطلب منها عدم الارتباط قدر الإمكان بالاقتصاد الغربي. أخبار الخليج البحرينية