أصدر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تقريرا مشتركا في الأسبوع الماضي، حذرا فيه من عواقب الأزمة الاقتصادية على شعوب الدول النامية، وأن الأزمة يمكن أن تؤديإلى زيادة عدد الفقراء والى تبلور كارثة إنسانية واجتماعية في هذه الدول، وفي تقرير آخر للبنك الدولي في نفس الأسبوع، جاء فيه أن تدهور الوضع الاقتصادي في دول شرق ووسط أوروبا سوف يوقع35 مليون إنسان في مهاوي الفقر. ولعل ذلك مناسبة لإعادة الكتابة عن أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية، وعما اذا كانت نتيجة طبيعية لتفاعلات النظام الرأسمالي وأن مرجعها ما يسمى بالدورات الاقتصادية، أي تعاقب مراحل النمو والانكماش والكساد والركود، أم أن ما حدث كان بفعل فاعل ونتيجة تصرفات عمدية تبدو لنا خرقاء ولكنها كانت تخدم مصالح شركات مالية ودخول ومرتبات كبار المسئولين فيها. ومن سبتمبر عام2008، ظهرت عشرات الدراسات عن أسباب هذه الأزمة من الناحية الاقتصادية وكلها أسباب علمية محترمة وتضيق المساحة عن تناولها جميعا، لذلك أود التركيز هنا على أمرين: الأول أن هذه الأزمة تحمل شعار صنع في الولاياتالمتحدة وأنها نتيجة لممارسات وتجاوزات شهدها الاقتصاد الأمريكي في المقام الأول، وبحكم الوزن الذي يمثله على مستوى العالم حيث يصل الناتج المحلي الإجمالي الأمريكيإلى قرابة ربع الناتج المحلي الإجمالي للعالم، فقد طرحت الأزمة آثارها في كل الدول، والثاني أن أحد أسباب الأزمة هو الانفلات المؤسسي وغياب قواعد المتابعة والإشراف ونظم الرقابة على أنشطة مؤسسات الائتمان والتمويل والتي جنت أرباحا هائلة كنتيجة لهذا الخلل. لقد كان من أسباب الأزمة مثلا، أن نمط الاستهلاك لدى الأسرة الأمريكية يتسم بإنفاق أكبر يزيد على دخلها، ويتم سداد هذا الفارق من خلال الكروت الائتمانية، ومعنى هذا أن أعدادا ضخمة من الأسر الأمريكية في حالة مديونية مستمرة، وأنه طالما استمرت في سداد الأقساط الشهرية فإن هذا الفارق بين الإنفاق والدخل يتم ترحيله من شهرإلى آخر، وكان من أسبابها أيضا التوسع في تقديم القروض دون وجود ضمانات حقيقية لقدرة المقترض على السداد، ولم يكن هذا التوسع في الاقراض بحسن نية، وكما يذكر د. سلطان أبوعلي في دراسة له عن الأزمة التمويلية العالمية كان هناك فساد واسع الانتشار فيما يشبه المقامرات في كازينوهات لاس فيجاس الشهيرة، وكانت ممارسات هذا الفساد تتضمن رشوة وتحقيق مصالح ذاتية لكبار العاملين في البنوك، ويخلص المؤلفإلى أن هذه الأزمة الاقتصادية كشفت عن فشل السوق في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وفشل الحكومة في الاشراف على الأسواق، وذلك في إطار اتسم بغلبة الرأسمالية المتوحشة والعولمة الجامحة أو المنفلتة، وهو نفس المعنى الذي أشارت إليه مجلة الإيكونومست البريطانية في عدد حديث عندما اتهمت عددا من مديري البنوك والمسئولين عن الاقراض بالتسبب والاستفادة مما حدث ووصفتهم بالأشرار. لقد كان من شأن هذه الأزمة أن تركت آثارا سلبية اقتصادية واجتماعية في كل دول العالم تقريبا، كان من مظاهرها انهيار أسواق المال وتباطؤ معدلات النمو وتراجع الاستثمار وازدياد أعداد ونسب البطالة، وعلى سبيل المثال، فقد بلغ عجز الموازنة الأمريكية في الربع الأول من السنة الحالية2485 مليار دولار وهو أكثر من العجز الإجمالي للسنة المالية السابقة بأكملها، وشهدت دول الاتحاد الأوروبي أسوأ انكماش اقتصادي من عام1974، وأعلن مكتب الاحصاء الأوروبي( يورستات) أن جميع دول الاتحاد دخلت مرحلة الكساد خلال الربع الأخير من عام2008، وفي فبراير2009 أعلن المكتب وجود عجز في الميزان التجاري الأوروبي مع بقية دول العالم بلغ14 مليار يورو، وبسبب تراجع الناتج المحلي الألماني أزاحت الصين ألمانيا من موقعها كثالث أكبر اقتصاد في العالم، وسجلت اليابان أو عجز تجاري لها في28 سنة، وتراجعت صادراتها بنسبة16% خلال يناير مارس2009، ومع جسامة ما شهدته اقتصادات الدول الصناعية المتقدمة، فإن تدخل الحكومات من ناحية والتراكم التاريخي للثروة فيها من ناحية أخري، يجعل من قدرتها على إدارة تداعيات الأزمة الاقتصادية أمرا ممكنا. المشكلة الأكثر جسامة ودرامية هي في الدول النامية والتي تسعى للخروج من براثن التخلف عبر سنوات طويلة وبدون نتائج ملموسة، ففي تقرير لمنظمة العمل الدولية في فبراير الماضي عن آثار الأزمة في آسيا تنبأ التقرير بسقوط140 مليون إنسان في براثن الفقر وتزايد أعداد البطالة لتصل الي23 مليون عاطل، وفي تقرير آخر لصندوق النقد الدولي في مارس، أشارإلى أن خسائر الدول النامية من فرص النمو الضائع بسبب الأوضاع الراهنة يصلإلى تريليون دولار في عام2009. وسوف يكون من شأن ذلك تدهور الأوضاع الاجتماعية في كثير من الدول وبالذات في إفريقيا بسبب تراجع معدلات الاستثمار الأجنبي وتناقص الصادرات مما يؤديإلى انتشار البطالة وإيجاد البيئة المناسبة للأزمات الاجتماعية والتوترات العمالية، ويتطلب مواجهة هذا الوضع دورا أكبر للدول الصناعية المتقدمة لدعم اقتصادات الدول النامية والحيلولة دون استفحال التناقضات الاجتماعية فيها،، كنوع من إبراء الذمة من الناحية الأخلاقية لأن تلك الدول النامية تدفع ثمن أخطاء ما حدث في الدول الغنية المتقدمة. ودروس الأزمة كثيرة وهي تكشف بوضوح عن ضرورة وجود الضوابط الاجتماعية والأخلاقية لعمل القطاع الخاص وأهمية دور المؤسسات العامة في تنظيم الأسواق والإشراف عليها في إطار سياسات عامة تضمن توليد الثروات وزيادة الدخول من ناحية، وعدالة توزيعها من ناحية أخري، لقد عبر عن هذا المعنى الآن جرينسبان رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) الأسبق الذي كانت له الكلمة الأولى في مسار الاقتصاد الأمريكي وربما العالمي لمدة18 سنة، في كلمته أمام الكونجرس عندما قال إنه أخطأ في ثقته المطلقة بمبدأ حرية السوق والاعتماد الكامل على آلياته فقط لتصحيح أخطاء النظام المالي. وفي نفس السياق تحدث الرئيس الفرنسي ساركوزي عن الحاجةإلى رأسمالية جديدة تقوم على الالتزام وليس الاحتكار، كما تحدث عديد من القيادات الأوروبية عن الرأسمالية المسئولة. وكل ما تقدم يؤكد صواب التوجه الاستراتيجي المصري في مجال الاصلاح الاقتصادي، الذي حرص على تحقيق التوازن بين إطلاق حرية السوق والقطاع الخاص من جهة، وبناء المؤسسات الإشرافية المالية من جهة أخرى، وهو توجه حمى الاقتصاد المصري بدرجة كبيرة في هذه الأزمة. الأهرام المصرية