تتردد في عدد كبير من الكتابات الصحفية, وفي عدد غير قليل من الدراسات العلمية مقولة فحواها إن الرأي العام يلعب دورا كبيرا في صناعة السياسة الخارجية وفي اتخاذ القرارات السياسية للدول الديمقراطية, وفي المقابل, فإن الدول غير الديمقراطية أو التي لم تكتمل مقومات الديمقراطية لها, يختفي فيها هذا الدور المؤثر للرأي العام, أو يتلاشي, بحيث لا يمكن الإشارة إليه كمصدر من مصادر صناعة السياسة الخارجية لهذه الدول, والحقيقة أن هذه المقولة, تأثير الرأي العام علي مخرجات السياسة الخارجية للدول, علي وجاهتها الظاهرية, هي تعميم مبسط جدا للموضوع, وفيها مبالغة غير مبررة لأهمية الرأي العام. ففي الولاياتالمتحدة, وهي الدولة التي يشار إليها باعتبارها مثالا للديمقراطية الليبرالية ثار لفترة طويلة جدل كبير بين الباحثين والدارسين حول تأثير الرأي العام وفعاليته في مجال السياسة الخارجية, وانقسموا إلي فريقين: الفريق الأول, ويتبني فكرة مؤداها أن الرأي العام له تأثير كبير, وتقوم هذه الفكرة علي فكرة تعددية المصادر في صناعة القرار السياسي, وأن القرار في مجال السياسة الخارجية ينتقل من القاعدة الشعبية إلي الصفوة السياسية, ومن أسفل إلي أعلي ووفقا لوجهة النظر هذه, فإن القادة يتبعون رأي الشعب. الفريق الثاني, ويتبني وجهة نظر نقيضة تماما, تقوم علي فكرة أن القرار في مجال السياسة الخارجية يعتمد أساسا علي رؤية الصفوة السياسية وصانعي السياسة الخارجية, وإن الاجماع الشعبي واتجاه الرأي العام نحو أي قضية إنما هو وظيفة أو نتيجة لتوافق الصفوة التي تؤثر في الجمهور العام, ولعل وجهة النظر هذه تكون أكثر واقعية من الأولي, وأن هناك كثير من الشواهد الواقعية في مجال السياسة الخارجية التي تدعمها, فعلي الرغم من الاتجاه الرافض للحرب الأمريكية علي العراق سواء الأولي1991 أو الثانية2003 وخروج الكثير من المظاهرات الحاشدة ضد قرار الحرب, في العاصمة الأمريكيةواشنطن وفي غيرها من العواصم, فإن السياسة الخارجية الأمريكية كانت علي عكس ذلك, وعلي الرغم من تزايد السخط الشعبي الأمريكي حول وجود القوات الأمريكية في العراق, وتدني شعبية الرئيس السابق جورج بوش الابن نتيجة لفشله في هذه القضية وفي غيرها من قضايا السياسة الخارجية, فلم يتغير القرار السياسي نسبيا, بل إن خلفه باراك أوباما أشار إلي أنه( ينوي) الانسحاب في غضون ثمانية عشر شهرا, علي الرغم مما كان يشير إليه أثناء حملته الانتخابية من إمكانية الانسحاب الفوري من العراق تلبية للرأي العام وإرضاء له. وقد ظهرت وجهة نظر ثالثة, يمكن تطبيقها علي الدول الديمقراطية, والدول غير الديمقراطية, يشير أصحابها إلي أن تأثير الرأي العام إنما يكون بشكل غير مباشر, وذلك من خلال تأثيره علي مدركات صانعي السياسة الخارجية, فإدراك صانعي السياسة الخارجية لأهمية الموضوعات وطبيعة الخطوط أو الحدود التي يمكن أن يقبلها الرأي العام أو يتسامح بشأنها يصبح بمثابة الترمومتر أو المقياس الذي يتم علي أساسه اتخاذ القرار السياسي, فأي زعيم عربي, علي سبيل المثال: لديه تصورات عما يمكن أن يقبله الرأي العام أو يرفضه في إطار علاقة الدول العربية بإسرائيل, وأن أي تجاوز أو خروج عن طبيعة هذه التوقعات والحدود يمكن أن تنجم عنه مخاطر قد لا تكون مأمونة العواقب, وقد تكون خارج إطار الحسابات المتوقعة, كما حدث للرئيس الراحل أنور السادات. وتشير الدراسات العلمية والممارسات التطبيقية إلي أن صناع السياسة الخارجية سواء في الدول الديمقراطية أو غير الديمقراطية عادة ما يقومون بممارسات من شأنها التأثير علي اتجاهات الرأي العام, واستراتيجيات للتعامل معه, منها التجاهل المؤقت إزاء بعض الموضوعات أو القضايا, ومنها تحويل الانتباه من قضية إلي قضية أخري ريثما يتم الانتهاء من القضية الأولي, ومنها ركوب الموجة وتبني اتجاه الرأي العام إذا كانت متوافقة مع اتجاه صانعي السياسة الخارجية, ومنها التذرع باتجاهات الرأي العام والاحتماء بها في مواجهة بعض الضغوط الدولية الخارجية, كما يحدث عندما يطلب من بعض القادة العرب ضرورة تسريع عملية التطبيع مع إسرائيل, ويكون الرد إن الرأي العام لديهم يقف عائقا دون إتمام ذلك. ومن القضايا المرتبطة بالرأي العام وعلاقته بالسياسة الخارجية, الاعتقاد في أن مضمون وسائل الاعلام يعكس اتجاهات الرأي العام ويعبر عنها, ومن ثم فإن تحليل مضمون وسائل الإعلام يمكن أن يكون أداة رئيسية لمعرفة اتجاه الرأي العام وتفضيلاته إزاء قضايا وموضوعات السياسة الخارجية للدولة.. وهو ما لا يمكن الزعم بصحته سواء في المجتمعات الديمقراطية أو غير الديمقراطية. إذ تخضع وسائل الاعلام في الغالب لضغوط مالية ومؤسسية وسياسية تجعلها معبرة في الغالب عن اتجاه بعينه, قد يكون هو اتجاه النظام السياسي القائم, دون أن يكون معبرا عن بقية اتجاهات الرأي العام, أو بقية العناصر المكونة لهذه الاتجاهات. خلاصة القول, إننا لا يمكننا اعتبار الرأي العام مؤثرا قويا في صناعة السياسة الخارجية للدول, كما لانستطيع في الوقت نفسه أن ندعي عدم وجود أي تأثير له علي الاطلاق, ولكننا نقول إن الرأي العام هو مجرد عامل ضمن مجموعة كبيرة ولا متناهية من العوامل التي تؤثر علي صناعة السياسة الخارجية للدول, وأن تأثيره يتوقف علي نوع القضية ومدي أهميتها, وعلي مدي انعكاساتها الداخلية, ودرجة توافقها مع الإرادة السياسية للنظام السياسي القائم, وهذا التأثير في الغالب هو تأثير غير مباشر, ولا يمكن التحقق منه فعليا, وإنما عن طريق الاستنتاج والفرض, وكثيرا ما تعجز أدواتنا البحثية عن قياس دوره الحقيقي. الأهرام المصرية