في حين تنشغل الساحة اللبنانية بالسجال الدائر حول المحكمة الدولية وقرارها الاتهامي، والتباين في وجهات النظر القائم حول خطة الكهرباء على طاولة مجلس الوزراء، تتابع الدوائر الرسمية والوزارات المعنية في الدولة اللبنانية، مع الأممالمتحدة ملف تثبيت الحدود البحرية اللبنانية في المنطقة الاقتصادية المتنازع عليها مع إسرائيل، التي تقدر مساحتها ب860 كيلومترا مربعا. وكانت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قد تعهدت في بيانها الوزاري بأن تعتمد «سياسة نفطية لتحويل لبنان من بلد مستهلك للمحروقات ومثقل بأكلافها، إلى بلد منتج لها ومتنوع بمصادرها، بدءا بإطلاق دورات تراخيص الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في المياه اللبنانية في نهاية عام 2011، بعد إصدار المراسيم اللازمة لها». ويوضح الخبير العسكري، العميد المتقاعد الدكتور أمين حطيط، ل«الشرق الأوسط» أن «لبنان نفذ بسرعة قياسية، وخلال أقل من شهر، ما عجز عنه أو تخلف عنه لمدة 5 سنوات، لا سيما لناحية إقرار مجلس النواب قانون البحار مطلع الشهر الحالي، ومصادقة رئيس الجمهورية، ميشال سليمان، عليه»، لافتا إلى أن القانون «أصبح نافذا بعد نشره في الجريدة الرسمية». وتعمل وزارة الطاقة اللبنانية اليوم على وضع الخرائط – المراسيم التطبيقية للقانون، التي تم إرسالها سابقا إلى الأممالمتحدة، ليكون لبنان قد أنجز، وفق حطيط، 80 في المائة مما هو مطلوب منه في ملف النفط، ويبقى أمام لبنان العمل على مرسوم تنظيمي واحد يتعلق بإدارة المنطقة الاقتصادية الخالصة. وكان اتفاق وقعته الحكومة اللبنانية في عام 2007 مع قبرص لترسيم الحدود البحرية، إلا أنه لم يؤخذ به بسبب عدم مصادقة مجلس النواب أو رئيس الجمهورية عليه، بسبب الخلاف السياسي الذي كان سائدا. وبعد إعلان قبرص عن اتفاق جرى بينها وبين إسرائيل العام الماضي، تبين أن الاتفاقية تفقد لبنان مساحة من المنطقة الاقتصادية الخالصة، وتحرمه بالتالي كميات هائلة من الموارد النفطية المتوقع استخراجها. ويرى حطيط، المقرب من حزب الله، أن «لبنان نفذ واجباته تجاه الأممالمتحدة، لا سيما لناحية مراقبته سلوك إسرائيل، التي لم توقع أصلا على قانون البحار، بل اكتفت بإرسال خريطة إلى الأممالمتحدة، تعتدي بموجبها على المياه اللبنانية»، مشيرا إلى أن «الرسالة التي وجهها وزير الخارجية والمغتربين، عدنان منصور، إلى الأممالمتحدة يشعرها بالمخالفة ويحملها مسؤولية المتابعة». واعتبر وزير الخارجية في الرسالة التي وجهها مطلع الأسبوع الحالي إلى الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أن «الإحداثيات الجغرافية التي أودعتها إسرائيل الأممالمتحدة، والعائدة إلى الجزء الشمالي من المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، التي تدعي أنها تابعة لها، تنتهك وتعتدي بشكل واضح على حقوق لبنان السيادية والاقتصادية في مياهه الإقليمية ومنطقته الاقتصادية، وتقتطع منهما مساحة 860 كيلومترا مربعا، وبالتالي تعرض السلم والأمن الدوليين للخطر». وأكد الوزير منصور «رفض لبنان لتلك الإحداثيات»، مطالبا الأمين العام «باتخاذ كل التدابير التي يراها مناسبة تجنبا لأي نزاع، حفاظا على السلم والأمن الدوليين وفقا لمنطوق القرار 1701». وكانت الحكومة اللبنانية قد اتخذت قرارا بشأن ترسيم الحدود البحرية، وأرسلت في عام 2009 الماضي إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة خرائط تتعلق بالحدود البحرية الغربية للمنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة مرفقة بلائحتي إحداثيات، إحداهما للنقاط المحددة للحدود البحرية الجنوبية (بين إسرائيل ولبنان) والثانية للجزء الجنوبي من الحدود البحرية الغربية للمنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان بين قبرص ولبنان. ويعتبر الموقف القبرصي أساسيا في تسريع تسوية الخلاف الحدودي البحري بين لبنان وإسرائيل، أو في تأخيره، أو في التسبب بنزاع بحري مع لبنان. وكانت قبرص قد أكدت في رسالة وصلت إلى وزارة الخارجية اللبنانية، نهاية شهر يونيو (حزيران) الماضي، أن الاتفاقية الموقعة بين البلدين عام 2007، حول تحديد منطقتيهما الاقتصادية الخالصة، «لا تخرق بأي شكل من الأشكال حقوق لبنان الأخرى، ضمن القانون الدولي، وهي تتضمن الترتيبات المحددة لإعادة النظر في النقاط الجغرافية المضمنة في الاتفاقية». وإلى جانب المتابعة السياسية والدبلوماسية لملف الثروة النفطية، تبقى «الرقابة الميدانية والعسكرية هي الأهم»، على حد تعبير حطيط، وفق «طاقات لبنان المحدودة في الرقابة الجوية، التي يضطلع بها الجيش والمقاومة إلى جانب دور (اليونيفيل)». وكان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، قد أعلن معادلة جديدة تتعلق بالنفط، فقال إنه «عندما ترسم الدولة اللبنانية الحدود وتعتبر أن هناك مساحة ما هي أرض لبنانية، فسنتصرف على أن هذه المنطقة هي ضمن المياه الإقليمية اللبنانية». وشدد على أن «لبنان قادر على حماية الشركات والمنشآت النفطية والغازية، ليس لأنه يملك سلاح جو قويا، بل لأن من يمكن أن يعتدي على هذه المنشآت لديه منشآت نفط وغاز، ومن يمس المنشآت المستقبلية في المياه الإقليمية ستمس منشآته». وأثار موقف نصر الله امتعاض فريق المعارضة المتمثل في فريق «14 آذار»، وحمل قياديون فيه على محاولة نصر الله «ربط النزاع المائي الجديد مع إسرائيل بمهمة المقاومة، وذلك بهدف توسيع حلقة وجودها». ويقول حطيط في هذا السياق: «معادلة السيد نصر الله أساسية في ردع العدو الإسرائيلي، لا سيما أن إسرائيل عودتنا على أن لا تقيم وزنا للحق اللبناني»، مستدلا على ذلك بالقول: «عندما عملت في الفريق اللبناني المكلف بمهمة التحقق من الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في عام 2000، لم تكن إسرائيل تمتثل لطلب (اليونيفيل) بالانسحاب من الأراضي التي كنا نقدم خرائط على أنها لبنانية، ولكن عندما كنا نعلن أننا سنترك الموضوع للمقاومة كانت تسارع للانسحاب في اليوم التالي». ويوضح أنه «في موضوع مياه الوزاني (جنوب لبنان) بقيت إسرائيل طيلة عقود تمنع لبنان من أخذ قطرة ماء، لكن في عام 2001 أخذنا ثلث حقنا من الماء بسبب تهديد المقاومة، وسيتكرر الأمر مع لبنان في موضوع النفط»، معتبرا أنه «عندما يحسم لبنان أمره في موضوع التنقيب عن النفط، فهو سيضع إسرائيل أمام خيارين: إما أن تقبل بالأمر الواقع وتسمح للبنان بالتنقيب، وإما أن ترفض السماح له وتعود إلى سياستها السابقة، وعندها ستكون المقاومة لها بالمرصاد وستمنعها من التنقيب عن النفط في الحقول الموجودة في فلسطينالمحتلة، انطلاقا من المعادلة التي أرساها نصر الله». ويشدد حطيط على أنه «لو لم تكن هذه المعادلة موجودة، لما كان لبنان ليحلم باستخراج النفط أو سواه»، مستبعدا أن يكون النفط محور حرب إسرائيلية - لبنانية. ويقول في هذا السياق: «لا حرب إسرائيلية مقبلة مع لبنان، في ظل وجود النفط أو عدمه، لأن إسرائيل بكل بساطة غير جاهزة اليوم لأي حرب جديدة مع لبنان، والدلائل على ذلك كثيرة، من عملية إيلات إلى القبة الحديدية، إلى التماسك الداخلي الذي يبدو أشبه بعملية فلكلورية...». ويضيف: «إسرائيل تستفيد من تغيرات الوضع في المنطقة العربية، وأي حرب اليوم ستغير وجه المنطقة». وفي الإطار عينه، حذر رئيس الجمهورية اللبناني، ميشال سليمان، من «أية قرارات أحادية تتخذها إسرائيل»، وأكد استعداد بلاده «للدفاع عن حقوقها وثرواتها بكل الوسائل المشروعة»، فيما أشار وزير الخارجية إلى أن «التعدي الإسرائيلي لا يطاول فقط المنطقة البحرية، وإنما أجزاء أخرى من الأراضي اللبنانية، وبطبيعة الحال فإن لبنان لن يتخلى عن حقه ولن يفرط فيه، وهذا ما يجب على إسرائيل أن تعرفه». ولم تتردد إسرائيل في اتهام إيران وحزب الله بأنهما وراء طلب الحكومة اللبنانية من الأممالمتحدة المتعلق بالحدود البحرية المتنازع عليها. واعتبر نائب رئيس الوزراء، موشيه يعلون، خلال جلسة لمجلس الوزراء الإسرائيلي في 10 يوليو (تموز) 2011 أنه «عندما أعلنا بدء التنقيب عن الغاز، قررت إيران وحزب الله أن ذلك هو سبب وجيه للنزاع معنا، وقررا رسم خط جديد جنوبي الخط المرسوم بين لبنان وقبرص ودخلوا، عمليا، إلى داخل حقوقنا الإقليمية»، متهما إياهما بأنهما «قاما بذلك عن سابق تصور وتصميم لخلق نزاع معنا مثل ما جرى في مزارع شبعا». وهذا الموقف تكرر على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، الذي لفت إلى أن «لبنان يسعى، بضغط من حزب الله، إلى إثارة توترات، لكننا لن نتخلى عن شبر مما هو ملكنا». في موازاة ذلك، يبقى المطلوب من الدولة اللبنانية أن تبادر بعد حسم النزاع القائم مع إسرائيل، إلى البدء في تلزيم عمليات التنقيب لشركات عالمية، بعد وضع دفتر الشروط واستدراج العروض من خلال المناقصات. ويؤكد حطيط في هذا السياق أن المطلوب «التروي وعدم التسرع، لأنه لا خبرة للبنان في هذا الإطار»، معتبرا أن «لبنان سيكون أمام معضلة في اختيار شركات التنقيب، ذلك أن الشركات الأجنبية لن تقدم على القيام بأي خطوة تغضب إسرائيل، ومن هنا يطرح السؤال: هل سيقدم لبنان على قرار استراتيجي باستقدام شركات شرقية للتنقيب؟ على أن تبقى الإجابة على هذا السؤال رهن ما ستحدده الظروف في المستقبل». وفي حين أبدت دول إقليمية استعدادها لمساعدة لبنان في التنقيب عن النفط، وفي مقدمتها إيران، وهو ما عبر عنه سفيرها في لبنان، غضنفر ركن آبادي، مرارا خلال لقائه المسؤولين اللبنانيين، بدأت شركات أجنبية تعلن عن رغبتها المشاركة في استكشاف الحقول النفطية في المياه اللبنانية. وفي هذا الإطار، أعلنت شركة «كيرن إينرجي» الأسكوتلندية المتخصصة في التنقيب عن المحروقات في المناطق غير المستغلة كليا أو جزئيا، منذ ثلاثة أيام، نيتها المشاركة في حملة استكشاف يتم التحضير لها قبالة سواحل لبنان. وأوضحت، في بيان مخصص لنتائجها الفصلية، عن رغبتها في «توسيع أنشطتها، خصوصا في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، حيث تسعى بلدان عدة إلى التحقق من وجود موارد طبيعية كبيرة عقب اكتشاف حقل للغاز قبالة سواحل إسرائيل». وأشارت إلى أنها «شكلت كونسورسيوم مع شركتين (هما المجموعة النفطية اللبنانية «سي سي إيه دي»، ومجموعة «كوف إينرجي» البريطانية)، وستقدم ترشيحها للحصول على ترخيص بالتنقيب قبالة سواحل لبنان، حيث الحكومة تحضر لاستدراج عروض العام المقبل، كما قد تترشح للحصول على أذونات محتملة من الحكومتين السورية والقبرصية». ويعول لبنان كثيرا على العائدات التي ستنتج عن عملية استخراج النفط، ويراهن البعض على قدرة لبنان من خلالها على سداد كامل الديون، وإنهاء حالة العجز في ميزانه التجاري، فضلا عن فرص العمل الكثيرة التي سيوفرها. وفي المقابل يتخوف كثيرون من أن يخضع هذا القطاع للمحاصصة، شأنه شأن باقي القطاعات الإنتاجية، مع سعي القوى السياسية لتقاسم «البقرة الحلوب». إلا أن أوساطا سياسية متابعة تؤكد أنه «من المستحيل مقاربة هذا الملف بهذه العقلية، خصوصا في ظل الأطماع الإسرائيلية القائمة»، مع إشارتها إلى اعتقادها بأن «القوى السياسية تدرك جيدا خطوة هذا الملف وحساسيته».