أعرف منذ عقود كثيراً من أهل القرآن المعاصرين وألتقي بالعشرات بل المئات منهم، ولكن الذين تتثمل فيهم الصفات التي نص العلماء - وعلى رأسهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه - على أن حامل القرآن ينبغي أن يعرف بها قلما تجتمع إلا في القليل النادر ممن أعرفهم، وكان ممن اجتمعت فيه تلك الخصال فقيدنا هذا الأسبوع الشيخ محمد بن حذيفة الأنصاري رحمه الله، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في شعب الإيمان، وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال: ((ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حليماً حكيماً سكيتاً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون، لا صخَّاباً، ولا صيَّاحاً، ولا حديداً". وهذه الصفات - فيما علمت - تمثلت كلها أو معظمها في شخص الشيخ محمد بن حذيفة الأنصاري رحمه الله تعالى. وأجد أنَّ من أعظم بركته ما تركه من قدوة حسنة لمن يعرفه من أهل وأقارب وجيران في السمت الحسن، والخلق الكريم، وترك الخوض في ما لا يعنيه، والإقبال على شأن نفسه، وعمر حياته بعبادة الله وطاعته، وقراءة القرآن، وتعليمه، فلم يورث أهله حب الدنيا، والتعلق بها، والتسارع في كنزها، والمسابقة في تحصيل لذاتها الفانية كما كثر في هذا الزمن، بل أورثهم حب القرآن، والمداومة على تلاوته وتعهده، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، وهو الإرث الذي من أخذه أخذ بحظ وافر. ولم تكن كتابة هذه الكلمة الوجيزة للثناء على المرحوم، وذكر مآثره، فما ذكرته عنه معلوم لكل من عرفه، بل الغرض منها الحث على السير على الجادة التي سلكها، عسى الله تعالى أن يجعل ذلك سبيلاً لرفعة درجته، ومضاعفة حسناته، ونجاتنا مما يُخاف منه غداً عند الوقوف بين يدي الله عز وجل، وأن يتحقق في الأسرة أسرة أبناء حذيفة خاصة وأبناء إنفا الأنصار عامة قول الشاعر: إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ وهم بذلك جديرون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.