تحظى قضية التعليم باهتمام جميع شرائح المجتمع وأطيافه، وهي تستحق ذلك وأكثر، وأن تكون على مستوى الحوار الوطني ليعود له ذلك التوهج القديم. ورغم أنني مختص في مجالات الأعمال والاقتصاد والرقابة، إلا أن جزءا مني هو للتعليم ومنه، فقد عشته طالبا ومعلما وأستاذا جامعيا، ومررت بتجاربه العنيفة بدءا من زمن الاختبارات المركزية في شهادات الابتدائية والمتوسطة حتى الثانوية المطورة، ثم تجارب الجودة البائسة في الجامعات، وهذه القاعدة من العمل التعليمي هي التي تفرض علي اليوم كتابة هذا المقال. بداية كل التجارب التي مرت على التعليم "العام أو الخاص حتى التعليم الجامعي أو دونه أو ما بعده" تركز على تطوير إجراءات التعليم والتعلم دون تطوير مفهوم التعليم وجوهره والحاجة إليه. الجميع منهمك في إجراءات كثيرة لضبط ملفات المقرر، وإعداد وملء النماذج وإدخال البيانات، وهناك كثير من النقاش والصراخ حول أداء المدرس في القاعة، وكثير من الخلافات بين كادر الإشراف والتدريس حول الإجراءات، ونقاش طويل حول نماذج التدريس المقبولة، وعلاقة التلميذ بالمعلم والبيت بالمدرسة، وغيرها مما لا يحصى، وكثير من الحوار في قمة هرم التعليم عن الاختبارات، والمقاييس والتقويم، والقدرات وأخواتها، وكل ذلك البؤس على التعليم ومؤسساته آت وما زال يتدفق من أفكار الجودة البائسة. لكن السؤال الجوهري هو، ماذا يتعلم أبناؤنا فعلا ولماذا؟ قبل أيام انطلقت عبر منصات التواصل عبارات من الاستحسان لا حصر لها مع تطوير أحد مناهج التعليم ليشمل "بعض" الأسماء والقصص في تاريخ الشعب السعودي ونضاله ضد الأتراك ودور المرأة السعودية في ذلك، لكن هذه الومضة الرائعة سرعان ما انطفأ وهجها مع نقاش لا معنى له حول الفصول الأولية، والفرق بين الأمرين هو الفرق بين الجوهر والإجراء أو بعبارة أخرى: بين ماذا نتعلم ولماذا، وبين كيف وأين ومع من نتعلم؟ العلم له فلسفة، ومن سيخوض بحر العلم لا بد أن يعرف فلسفته، هذه القاعدة الأولى، وأهم فلسفة للعلم تأتي من المدرسة الاجتماعية للعلم أو سيسيولوجيا العلم، وأهم مفاهيمها العلم السائد Normal Science ويتعلق به مفهوم معقد وهو جوهره Paradigm، وهي تلك النظرية أو الفكرة المركزية في العلم السائد، كالشمس للكواكب، الجميع يدور حولها، لا يمكن لأحد أن يهاجمها، ولا يسمح له، والعلماء الكبار وحدهم من يعملون حول الجوهر، "قليل يصل إلى هناك في العادة". المشكلة في سيسيولوجيا العلم أن فكرة ومعنى العلم السائد تقتضى أن هناك علوما أخرى أو نظريات أخرى غير سائدة في مجتمع ما أو غير مؤيدة بقوة من مفكري هذا المجتمع، وهذا معناه أيضا أن هناك "منافسة" بين العلم السائد المهيمن وبين المدارس العلمية الأخرى. العالم اليوم بدأ يؤمن بالتعددية الفكرية، ولم يعد بالإمكان فرض علم سائد وحيد على أي مجتمع "أي إغلاقه تماما عن المدارس الأخرى"، والسبب هو الانفتاح الضخم على المعلومات والإنترنت، فقد تطورت المجتمعات بشكل مذهل في الأعوام العشرة الماضية. ويبقى السؤال كيف نقود الطلاب للعلم السائد المناسب في كل تخصص؟ كيف نطور مهارات الطالب لفهم واختيار العلم السائد المقبول من بين كل المدارس العلمية في زمنه؟ هنا تكمن مشكلة التعليم اليوم. فهي لم تعد كما كانت في ترسيخ مفاهيم وأفكار العلم السائد في عقول الطلاب وتحفيظها لهم وإجبارهم على تبنيها "من خلال المناهج المعدة مسبقا للطلاب"، لكن مشكلة التعليم اليوم في إقناع الطلاب بهذا، وفي اختيارهم عن قناعه، وإقناعهم بالأدلة على أنه العلم الأكثر صحة بين العلوم المتنافسة. كنا في زمن مضى نؤمن باختيارات علمائنا ومعلمينا، لكن في هذا الزمن، فإن ما هو علم وغير ذلك لم يعد ممكنا بمثل هذه الثقة ونحتاج معها إلى دليل قوي ومقنع نظرا إلى حجم المنافسة العلمية في ساحات المعلومات المختلفة. فلسفة العلم التي تتبنى التعددية الفكرية تؤمن بالتحدي العلمي وليس الإثبات، وهذه هي القاعدة الثانية. والمعنى: أي فكرة مهما كانت قابلة للطرح والنقاش، فإن على مؤيديها مواجهة تحدي الآخرين لصدقها. كل الأفكار والمعلومات تعد صحيحة إذا لم يتحدها أحد، وهذه أهم المهارات التي يجب أن يتعلمها العاملون في العلم ويعملوا بها، طرح الأفكار وتحديها وتقديم الأدلة على صحتها أو دحضها. وهذا يتطلب أن تكون المناهج مبنية على هذه الفكرة، ولا بد من التخلي عن نموذج الحفظ والتحفيظ إلى نموذج طرح الأفكار وتحديها. المدرسة السائدة هي الفكرة المطروحة، وعلى المعلم والطالب العمل معا من أجل خوض التحدي الفكري، ويجب أن يحفز المعلم طلابه على طرح أفكار مضادة ومناقشتها معهم وفقا للمنهج المعد مسبقا له وأن يصل معهم إلى نتيجة مفادها صدق العلم السائد المطروح في المنهج. يجب أن نتخلص من القلق من هذا النقاش والتحدي، ذلك أنه لا يمكن حماية الأجيال والأفكار المركزية لنا إذا لم نخض سويا مع أبنائنا مثل هذه التحدي الفكري، ودون ذلك فإن أبناءنا من خلال المواقع المختلفة للمعلومات سيواجهون التحدي وحدهم بلا توجيه ولا تدريب مناسبين، وهناك في عالم الواقع سيرسبون ولو نجحوا في عالم المدارس ... يتبع.