يجري تحويل مانديلا إلى قديس بسبب تسامحه مع تعمد إغفال الإعلام الأمريكي لإصراره على عدم التخلي عن السلاح ما لم يتخلى الطرف الآخر وتحقيق العدالة والمكاشفة بحق مرتكبي الجرائم. لعل أخطر حيل بعض وسائل الإعلام هي توجيه تغطية أي حدث أو شخصية باتجاهات محددة لحصرها بما يناسب تلك الجهات الإعلامية، وينسحب ذلك بشكل مريب وخاص حاليا على الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا الذي يسعى الإعلام الامريكي تحديدا لجعل شخصيته تتمحور على التسامح والنضال السلمي، رغم أن مانديلا كان أعظم من ذلك في امتناعه عن التفريط بحقوق شعبه باسم التسامح والسلمية. فقد طالب مانديلا بالعدالة قبل أن يسامح البيض في جنوب أفريقيا. يشير الكاتب بيتر بينارت إلى هوس الإعلام الأمريكي وتركيزه على قدرة مانديلا على التسامح، دون أي إشارة لإصراره على المصارحة والحقيقة. ولو كنت تستقي معلوماتك من الإعلام الأمريكي فقد يتهيأ لك أن أعظم خصال مانديلا هو رغبته بالغفران بحسب تصريحات كل من جون كيري وحتى جورج بوش وعدد كبير من المعلقين في فوكس نيوز وغيرها من محطات أمريكية. ولا يوجد شك في هذه التوصيفات سوى أنها ليست كاملة فهو لم يسعى للانتقام لكنها تتجاهل عمدا انتقاده للسياسة الخارجية الأمريكية التي تنتهك القوانين الدولية وأشبه بالسياسة الإمبريالية. فلدى تصوير مانديلا على أنه أشبه بالقديسين في تسامحه يتم تجاهل تحولات نضاله مع جنوب أفريقيا البيضاء والعنصرية. ما يتعمدون إغفاله عن مانديلا هو إصراره الدائم على الحصول على مقابل لكل مطالبهم. فقد عرض رئيس جنوب أفريقيا بيك بوثا على مانديلا عفوا بإطلاق سراحه من السجن عام 1985 إذا تخلى عن النضال المسلح، وكانت سادسة مرة يتلقى فيها هذا العرض المشروط للحصول على حريته من زعيم لنظام أبارتيد العنصري، وكانت سادس مرة يرفض فيها منديلا ذلك ليطالب بالمثل أي أن يتخلى البيض وحكومتهم عن السلاح أيضا. وقال مانديلا بلسان ابنته:" عليهم هم أيضا أن يتخلوا عن العنف ولا يمكنني أن أبيع حقي الأصلي ولست مستعدا لبيع حقوق الشعب مقابل الحصول على حريتي". لم يتخلى حزب مانديلا، المؤتمر الوطني عن النضال المسلح إلا بعد ستة سنوات على ذلك العرض وجرى إطلاق مانديلا دون شروط وإلغي الحظر المفروض على حزبه. وفي مطلع التسعينيات اقترح ديكليرك رئيس جنوب أفريقيا تشكيل حكومة انتقالية يتولى فيها البيض حق الفيتو، لكن مانديلا رفض وانسحب حزبه من المفاوضات احتجاجا على تواطؤ الحكومة في مذبحة ارتكبت بحق مؤيدي الحزب. ولعل الأهم من كل ذلك أن مانديلا رفض منح حصانة قانونية لمركبي جرائم الابارتيد حتى يقروا بذنبهم علنا. وقبل أول انتخابات حرة في جنوب أفريقيا قام ديكليرك بمنح عفو عام عن 4 آلاف شرطي ورجل أمن جنوب أفريقي، لكن مانديلا ولدى فوزه بالانتخابات ألغى العفو الذي أصدره دي كليرك وأسس لجنة المصالحة والحقيقة التي اشترطت اعترافات علنية لمن يسعى للحصول على عفو. وأدار القس ديزموند توتو هذه اللجنة وقال بلسانه نقلا عن مانديلا:" المصالحة الحقيقية تكشف بشاعة الأذى وتكشف الحقيقة لأنه في النهاية لن تكفي إلا المواجهة النزيهة مع الواقع لتشفى الجراح فعلا، فالمصالحة المصطنعة تجلب علاجا مصطنعا". ويخلص الكاتب إلى أن سر تركيز الإعلام الأمريكي على قدرة مانديلا على التسامح بدلا من مطالبته بالمكاشفة، إلى أن الولاياتالمتحدة تسعى إلى التسوية دون المكاشفة، إذ يجري منع أي جهة أمريكية من تداول أخطاء ارتكبتها الولاياتالمتحدة كما حصل مع متحف سميثونيان حين ألغى معرضا لقصف مدينة هيروشيما على اعتبار أن ذلك أمرا يتعارض مع الشعور "الوطني". كذلك جرى مع اعتذار أوباما على إبادة الهنود الحمر اي السكان الأصليين للولايات المتحدة عام 2010 لكن الاعتذار تعرض للحذف من كل الوثائق الرسمية خوفا من اعتبار ذلك أمرا مهينا بحق الأمريكيين. لعل تصوير مانديلا قديسا سامح معذبيه دون مقابل يتجاهل الرسالة الحقيقية لعلاقة منديلا المتحولة مع جنوب أفريقيا البيضاء التي قامت بالتنكيل بمنديلا وشعبه، وأنه لا يجب توقع الغفران دون الإقرار بارتكاب ذنب. فالتاريخ ورغم آلامه الساحقة لا يمكن حذفه ما لم تتم مواجهته بشجاعة كي لا يتكرر الكابوس ثانية..بحسب إربين بزنس