ورقة تلو الأخرى تسقط من شجرة مصرية نابتة على الحدود الشماليةالشرقية يقطفها جنود إسرائيليون ثم يودعونها فى سجونهم.. يوما بعد يوم يفقد سكان العريش أولادهم الذين أجبرتهم ظروف الحياة على العمل فى التهريب عبر الحدود. فى غرفة من الخوص، قابلنا امرأة عجوزا، ملامحها الحادة لم تحل دون تساقط دموعها، حديثٌ مرٌ سردت خلاله «أم ياسر» من قبيلة السواركة بالعريش قصة ابنها الذى حكم عليه بالسجن قبل ست سنوات وهو فى ال 15 من عمره بعدما تم إلقاء القبض عليه أثناء عمله فى التهريب عبر الحدود المصرية الإسرائيلية. احتضنت ثلاثة خطابات عليها شعار الصليب الأحمر بعث بها ابنها من داخل محبسه فى إسرائيل، ثم قالت: «لا أعرف عنه شيئًا» سوى نقله من سجن «هدريم» إلى «نفخة الصحراوى» ظلت تدعو له كثيرًا والدموع تتساقط من عينيها. مؤخرا اعتقلت قوات حرس الحدود الإسرائيلية ثلاثة أطفال من البدو بتهمة «التسلل» إلى حدودها فى واقعة أثارت العديد من التساؤلات حول تفاصيل التجارة عبر الحدود أولاً؟ والأسباب التى تدفع هؤلاء الأطفال لتعريض حياتهم للمخاطر ثانيًا؟ ثم مصيرهم بعد دخول السجون الإسرائيلية؟. محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة استغرقت أربعة أيام قضتها «اليوم السابع» بين قبائل الشيخ زويد وطابا والعريش، زارت خلالها أسر المسجونين من قبائل «السواركة والترابيين» للتعرف على أدق تفاصيل تجارة الحدود المحرمة دوليا. التقينا الشيخ عبدالحميد الترابينى والد الصبى فايز ابن ال16 عامًا، أحد الأطفال الثلاثة المختطفين، تحدث عبدالحميد فى مرارة قائلا بلهجته البدوية :«ولدى عاطل ولدىّ 7 من الأبناء إيش بدنا نسوى نجوع ولا نشحت، هو يساعد نفسه ويساعدنى فأنا رجل على باب الله»، وأضاف «الآن ما عرف عنه شى، ولا حد جلى شى، وكل إللى بدى أعلمه هو عايش ولا مانه حى». لم يكن فايز هو الوحيد بين أفراد قبيلته ممن دفعوا ثمن الفقر والجوع داخل السجون الإسرائيلية، فأكثر من 18 طفلا وشابا سيناويا فى الفترة الأخيرة ألقت قوات حرس الحدود الإسرائيلية القبض عليهم بتهمة «التسلل» وفقا لشهادة أهالى المنطقة. والده قصّ واقعة أخرى لابنه الأكبر الذى فقد حياته برصاص إسرائيلى وهو يتاجر فى «الدخان والمعسل» كحال أبناء قبيلته «الترابين» التى هُمشت عن قصد لحماية الأمن الإسرائيلى حتى ولو على حساب أرواح خيرة شبابها، يقول «إسرائيل لها كل الحق فى هدر دمائنا والمتاجرة فى حريتنا وكرامتنا وإحنا مالنا رجل يملك قرار». «تهميش الحكومات الماضية لبدو سيناء جعلنا نتاجر حتى فى البشر».. كلمات أكد بها الشيخ على سلمان سويلم الترابينى كبير عائلة أبوزينة وأحد أهالى المختطفين من قبائل السواركة حديثه، مشيرًا إلى معاناة أهالى سيناء بسبب سياسات النظام السابق التى جعلتهم بين حلين لا ثالث لهما إما الموت جوعًا لسوء الأوضاع المعيشية أو العمل بالتهريب. كان مهمًا فى الإجابة عن تساؤلاتنا التحدث مع أطفال يعملون بالتهريب شرحوا لنا تفصيليًا طبيعة عملهم والأسباب التى دفعتهم إليه.. يقول م.ط ابن ال 16 عامًا، الذى يعمل بالتهريب منذ خمسة أعوام، إن العمل فى الزراعة متوقف لندرة المياه، وللتهريب مخاطر كثيرة لكنه «نعمة»، موضحا «لو ما اشتغلتش بهيك المهنة إيش بدى سوى.. هيدى مهنة كل شباب المنطجة وما يعطينى التاجر يكفينى أنا وأسرتى ال18 أحيانا طيلة الشهر». يقول الصبى «نتفق مع تاجر عربى ممن يعيشون فى الجبل على حمل صندوق خشبى أو كرتونة، بها بعض البضائع كالمعسل والسجائر وأحيانا «الحشيش» مقابل 200 جنيه للحمولة الواحدة بشرط تسليم المبلغ قبل الذهاب، ثم نقوم بتسليم الكرتونة لرجل عربى آخر على الحدود مع إسرائيل وهو من يتولى مهمة التوزيع». وعن الطرق التى يسلكها الصبى للوصول للحدود أكد «م.ط» أنهم يحفظون الصحراء عن ظهر قلب، ودائما يسعون لتغيير المكان ذهابا وإيابا قائلا «الطريق اللى نذهب فيه ما نعاود منه أبدا.. لأنه خلاص بيكون انحرج ولازم سلك طريق غيره». وأكد على الحديث السابق طفل آخر نرمز له ب «ف.ك» فى الرابعة عشرة من عمره من منطقة المقاطعة بالشيخ زويد والذى يعمل كسابقه فى حمل صناديق «المعسل والحشيش» ويقوم بتوصيلها إلى الحدود الإسرائيلية قائلا «ما فى بديل غير الجوع وسيناء كالمسرح تجد بها كل أنواع التجارة، حشيش وأنفاق وتهريب بضائع وبشر، وإحنا ما وجدنا غير هيك مهنة، وعندنا الشاب مسؤول عن نفسه وعن أسرته وإيش بدنا يعنى». «ف.ك» يعمل فى حمل صناديق «المعسل والحشيش» وتوصيلها على الحدود الإسرائيلية منذ 5 أشهر متبعا نفس منهج كل من يعمل بتلك التجارة المحرمة، قائلا «أحيانا بنخرج فى مجموعة وأحيانا باخرج لوحدى.. الطرق مابجت آمنة ولازم نأخذ حذرنا خاصة أن التجار اللى بيمدونا بالبضاعة - ولاد حرام - علشان كده بنطاوعهم أحيانا فى طلباتهم، وأحيانا يطلبوا منا نقل أكثر من حمولة فى اليوم الواحد لما بيكون فى بضاعة كثيرة وال200 جنيه ما بتكفى العيش الحاف فبنضطر نخاطر.. والعمر واحد والرب واحد». قبيلة الترابين تقع فى المرتبة الثانية بعد قبيلة السواركة فقدا لأبنائها على الحدود المصرية سواء بالقتل أو بالحبس فى السجون الإسرائيلية، رغم اتفاقى السلام بين مصر وإسرائيل عام 1978 والذى على أثره التزمت مصر بتسليم المتسللين للقطاع الإسرائيلى، على عكس ما تقوم به إسرائيل من محاكمات عاجلة وفورية لكل من تطأ قدمه أراضيها، ويسقط شهريًا أربعة أو خمسة شباب من هذه القبائل. فى بيت الشيخ على سويلم على سليمان كبير عائلة الأطرش بمنطقة المقاطعة، قصة أخرى إذ فقدت هذه العائلة ثلاثة من شبابها حكم عليهم بالسجن فى إسرائيل وعاد أحدهم مؤخرًا إلى عائلته بعدما قضى عامين سجينًا فى بلاد الاحتلال.. هو يوسف سليمان سويلم، أصيب بطلق نارى أعلى الساق على الحدود بعد اكتشاف دورية إسرائيلية وجوده هو وشقيقيه « إسماعيل وعبد لله» داخل حدودهم. بدأ يوسف حديثه قائلا «أنا عاطل ونعمل أنا وإخوتى الثلاثة كغيرنا من شباب القبيلة على الحدود فى نقل السجائر والمعسل وأحيانا الحشيش، وكنا نتفق مع تاجر عربى يعطينا الصندوق فى مقابل 200 جنيه للحمولة الواحدة.. أحيانا كنا نقضى الشهر على عائد حمولة واحدة». شجاعة يوسف جعلته يسرد تفاصيل تجارته على الحدود المصرية الإسرائيلية وتفاصيل إصابته على الحدود الإسرائيلية بعد مقاومة إخوته لضابط إسرائيلى اعتدى عليهم بالسب والضرب على الحدود، قائلا « نعلم أن التجارة على الحدود خطيرة لذا كنا دائما نغير من الطرق التى نسلكها من وإلى سيناء حتى لايضبطنا حرس الحدود المصرية أو الإسرائيلية، فالطريق الذى كنا نسلكه مرة لانعاود منه مرة أخرى، ومنذ 6 أشهر ضبطنا على الحدود الإسرائيلية وأثناء محاولتى أنا وإخوتى الهرب أصبت بطلق نارى أعلى ساقى فقبض علىّ أنا وإخوتى.. إلا أن الضابط الإسرائيلى لم يكتف بإسقاطى أرضا بل اعتدى على إخوتى بالسب والقذف والضرب مما استفزهم وقاموا بصفعه وضربه». دوافع عمل هؤلاء الأطفال فى تجارة التهريب رغم مخاطرها، جعلتنا نتوقف قليلاً عند تفاصيل الحياة السيناوية التى يبدو أنها تعرضت لأنواع شتى من «التجريف» و«الظلم» فى عهد النظام السابق، يقول الشيخ محمد المنيعى عضو اتحاد القبائل والمنسق العام لائتلاف تكتل الجمهورية لدعم ثورة 25 يناير، إن نظام مبارك تعمد تهميش أهل سيناء من أجل الحفاظ على الأمن القومى الإسرائيلى لأكثر من 30 عامًا. مًضيفًا: «كانوا يعملون على راحة إسرائيل، فكل المشاريع التنموية لسيناء توقفت عن عمد، وانتشر الفقر والبطالة والتهريب لأنه السبيل الوحيد لتكسّب الكثيرين هنا». وعن تجارة الحشيش أكد الشيخ المنيعى أن الداخلية كانت تمد مخبريها ببذور نبات الحشيش لزراعته فى وسط سيناء - لاختلاق حملات - وهو ما رآه بعينه أثناء عمله على حدود رفح الدولية، قائلا «كان هناك اتفاق بين المتعاقد مع الداخلية نصف المحصول ويترك النصف الآخر لعمل ضبطية، وأحيانا كانت تلفق التهم لشباب البدو ككبش فداء مما دفع خيرة شباب البدو للهرب بالجبال»، ورغم كل هذا أكد الشيخ المنيعى أن أهل بدو سيناء يثقون ثقة عمياء فى جهاز المخابرات الحربية، مؤكدا أن سبب الأزمة فى سيناء هو حكم الداخلية لبدو سيناء بكثير من التعسف. وأعرب الشيخ المنيعى عن تخوفه من ردة فعل بدو سيناء التى يعلمها الجانب الإسرائيلى جيدا إذا استمرت السلطات المصرية فى تجاهل حقوقهم الإنسانية التى تعرض خيرة شبابها للاعتقال والقتل من الجانب الإسرائيلى، قائلا « أخشى أن يلجأ بدو سيناء لردود فعل غير متوقعة، فهم يعلمون أنه إذا اتفق أبناء سيناء على شىء فسينفذونه بقوة». كان الله في عونكم ياأهل سينا .