تفرق الجمع .. وقلت الوفود .. عدت إلى دواتي كي أخفف شيء من حرقة الفراق في قلبي .. أحاول أن أتجلد أمام الجمع .. فأحبس الدمع وأعض على الشفاه.. لكني لا أقاوم انهيار الدمع مع الحبر .. فعلى الورق تتناغم دموعي مع حبري في تسطير مشاعري .. لاشي في هذه البسيطة يعادل حرارة دمعٍ يكوي وجنتاي .. ويحق لي يا أخي أن أبكيك! حرقة في قلبي يا أخي ألهبت جسدي .. فلم أُطق ارتداء ملابس الشتاء! حرقتي ليس على موتك أخي.. فأنت في أعالي الجنان بإذن ربي وموتك فخر وعز .. لكنه ألم الفراق ..! لست ملاك أو ادعي الكمال كي أقول أني لا أحزن ..! قلبي ضعيف وحبك قد استولى علي ...! اعذرني يا أخي عبدالله ..! تعلم مشاعري ..وتعلم قدرك في قلبي .. ! ثلاثة أماكن يامهجة فؤادي لم تعد تطق دموعي ..سجادتي .. وسادتي ..ورقات دفتري.. أجزم أنها تشتكي من حرارة دمع يمطر عليها..! عبدالله .. أرجوك اعذرني .. طلبوا مني تسطير شي من سيرتك .. بربك قل لي كيف لي أن أسطر شيء عنك..؟دموعي تنهار رغماً عني .. كلك خير ..كلك نقاء وصفاء.. ولا أريد تصفح ذاكرتي معك .. كي لا أبكي أكثر ! شقيقي.. عشاقك يريدون أن يقرأوا عن طفولتك العذبة و عن شبابك النقي ..يريدونني أن أحدثهم عن ذاك الطفل الباسم ذا القلب الأبيض الذي رفض أن يلتحق برياض الأطفال حتى لايدرس مع فتيات وحتى لا تدرسه أنثى فهو يرى نفسه رجل لا يحق له مخالطة النساء الأجنبيات .. فكان له ماتمنى وأُدخل المدرسة وهو صغير لم يتجاوز الخامسة ! يريدونني أن أحدثهم عن ذاك الطفل الذي كرس وقته لحضور حلق القرآن فقلبه قد علق بها.. ذاك الصغير الذي يمسك المصحف حين يعود من مدرسته ليحفظ حتى أذان العصر .. يطوف في أرجاء البيت ممسكاً كتاب ربه ويحفظ .. وقبل الأذان بدقائق يقول: "امتحني حفظي كيف شئتي." صغيرا كان بهمة الكبار .. لم تقدر متع الحياة أن تسحره .. الطهر والبراءة تنير وجهه .. والبسمة الصادقة تزين محياه .. صغيراً همه كتاب ربه .. وبرّ والديه! في زمن يتهافت فيه الصغار على استعارة مجلات الأطفال من مكتبة المدرسة .. كان يستعير كتيبات قصص الصحابة.. لم يكن طموحه أن يقرأ كتب سُطرت لمرحلته العمرية .. بل هي الهمة! "حمزة -رضي الله عنه-" كان كتابه المفضل .. من بين كتبه الملونة .. ومن شنطته الصغيرة .. كان يخرج كتب الصحابة التي يستعيرها.. لم تكن ملونة أو جذابة .. لم تكن تحتوي صور .. لكنه كان يعشق المحتوى .. فلا مظاهر تجذبه! كم كنت تعشق القراءة .. في الصف الخامس أذكرك كنت تقول .." قرأت مكتبة بيتنا ..أريد أن أسكن في مكتبة أصداء المجتمع كي أقراءها".. رحمك ربي لم تبلغ الصف الثالث المتوسط حتى أخبرتني بأنك أنهيت "أصداء المجتمع" ووجهتك القادمة "مكتبة العبيكان" .. كنت تقول .."أظن أن الموظفين في المكتبة سيهدونني فراش كي أنام في المكتبة .. فقد حفظوا وجهي ومكاني المفضل للقراءة.. لو يسألوني عن مكان الكتب لدللتهم عليها أسرع من حواسيبهم".. رحمك ربي .. كم كنت رائعاً يا أخي .. كنت تخاطب الجميع وتسحرهم بابتسامتك! كنت هيناً ليناً كثير الصمت جم الخلق شديداً حين البأس.. لا أظن أن أخي عاش مرحلة المراهقة .. فطفولته شباب ..وشبابه رجوله.. عبدالله .. يريدونني أن أحدثهم عن صولاتك وجولاتك في سبيل الحق.. عن غضبك حين تنتهك المحرمات .. عن ألمك وتمزق فؤادك على نفر من شباب أمتك قد تهاونوا في الحرمات وتساهلوا بالمعاصي .. عن ألمك على فتيات أمتك اللاتي تساهلن بالحجاب .. أذكرك دوما تردد كلما رأيت فتاة متساهلة في حجابها: (لاحول ولا قوة إلا بالله .. الله المستعان).. لله درك يا أخي.. كان قلبك يتقطع كمداً وألماً.. كنت كثيرا ماتقول: ( أخشى أن يعذبنا ربنا بسوء تطبيقنا لأوامره و اتنتهاكنا لنواهيه).. لله درك ياأباعلي.. حفظت القرآن ولم تبلغ الثامنة عشر .. يوم ختمك للقرآن كان يوم عرسك .. ليتك تأتي وتصف للعالم أجمع عن فرحتك بإتمام حفظ كتاب ربك .. كنت كطائر أطلق للتو من قفصه.. ما أسعدك..وما أهناك..! عبدالله .. يريدونني أن أحدثهم عن حماسك في تعليم القرآن.. فلم ترد أن يقتصر نفعك على نفسك .. امتطيت جواد تعليم القرآن منذ الثامنة عشرة.. فأخذت تُقرء طلابك وتتنقل بهم بين آي القرآن وتفسيره.. كنت مدرسة لهم بأخلاقك و همتك.. فلم ترتضي لهم إلا القمم .. "الطريق إلى المدينة" برنامج حفزت به طلابك وحثثتهم به على الحفظ، فمن يتقن حفظه تكافئه برحلة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يحيط بكم الخير وتنير دربكم العبادات .. رحلة ايمانية كنت تحلق بها مع أشبالك لتزيد تعلقهم بكتاب ربهم وسنة نبيه صلوات ربي عليه وسلامه.. أخي .. محبوك يريدونني أن أحدثهم عنك في البيت .. رحمك ربي ورحمهم .. ليتهم يعلمون أن وقتك مسخر للخير .. حتى النوم لم تجد له وقتاً..! ليتهم يعلمون أنك تمضي اليومين والثلاث دون نوم حتى يغلبك رغماً عنك ..! كنت تستشعر أن وقتك أغلى من أن تقضيه في النوم ..بل حتى لذيذ الأكل قد هجرته .. وعودت نفسك على تمرات ثلاث وكأس حليب. لله درك يا أخي .. كنت كفراشة في البيت تحلق بخفة بين الأرجاء .. لاتعرف حقداً ولا ضغينة .. برك بوالداي يشهد .. كنت دوماً تقبل رأس أمي وتقول: ( اعذريني يا أمي إن كنت قد قصرت عليك بشي أو تأخرت عن تلبية أحد طلباتك) وكانت ترد عليك بقلب محب : ( يابني.. إن كنت تقضي وقتك مع صحبك وطلابك.. فأنت في حلٍ مني .. فالأمة بحاجة طاقاتك).. كنت تطلب مني أشياء ثم تعود غامزا لي قائلاً: ( تدخل حق النقض الفيتو) .. حين يبدر من والداي عدم إقرار لأمر ما كنت تستسلم مباشرة وتردد: ( لانستطيع النطق أمام الفيتو).. رحمك ربي حتى في تقبل الرفض كنت تمزح وتضحك وتضحكنا معك! حين يبدر خطأ من أحدٍ منا .. كنت تأتي إليه مستفسراً وكأنك لا تعلم حتى نكتشف الخطأ بأنفسنا و نصلحه دون أن تشعرنا بأنك من وجهتنا.. كنت مدرسة بالأخلاق! أبا علي .. يريدونني أن أحدثهم عن استشهادك .. كيف لي أن أحدثهم عن رحيل ذاك الوجه الوضاء..؟ رحمك الله أخال دمائك الطاهرة قد أزكت الأرض مسكاً.. فروحك قد غادرت ذاك الجسد الغض لتحلق بحواصيل طير في أعالي الجنان بإذن ربي .. كنّا دوماً يا أخي نعلق على اتساع جبينك وكنت ترد: ( سيعجبكم بإذن ربي فهو علامة النبوغ) رحمك ربي قد أدركنا الآن أي نبوغ يحمله ..! فتلك الشضية التي استقرت فيه .. علمتنا دروساً عظيمة ..! استشهادك يا أخي أفهمنا كيف تصنع الهمم .. وكيف ترخص الروح في سبيل الله.. نم قرير العين يا أخي عبدالله.. فاستشهادك مع رفيق دربك قد أعاد الحياة لقلوب شغلتها الدنيا بملذاتها وأيقظ همم تغشاها فتور. رحمك ربي وأرضاك و وجعلك مع النبيين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.. تقبلك ربي شهداً ورزقنا شفاعتك .. البتول محمد أبالخيل