«أصوات من السماء»... هذا هو اسم الوثائقي الذي تبثّه قناة الجزيرة «الوثائقية» خلال شهر رمضان، ضم الوثائقي سير وأعمال أهم وأشهر قارئي القرآن الكريم من مختلف البلدان والمراحل الزمنية، تضم السلسلة قارئين من المغرب ومصر وتركيا والسعودية وفلسطين والعراق، من بينهم محمود خليل الحصري، وعلي عبدالله جابر، وعبدالله الخليفي، ومحمد رفعت، وسيد نقشبندي، وغيرهم، وهو وثائقي أعاد إلى ذاكرتي كل الأصوات التي أحببتُها والتي رسمت طريقة تلاوة القرآن حينما نحدره، أو نجوّده، هذا فضلاً عن هواية تقليد القرّاء، التي كنا نتنافس عليها في المدرسة وفي مدارس تعليم القرآن. في مطلع نيسان (أبريل) سنة 1959 صدر كتاب «ألحان السماء» للكاتب محمود السعدني، في طبعته الأولى، كان المؤلف مقيماً في سجن القلعة متهماً بالشيوعية! وقد اختفت نسخ الكتاب وعثر عليه الشيخ: أحمد الزريقي، ضمّ الكتاب قراءة في أصوات كبار القارئين في مصر وعلى رأسهم القارئ عبدالباسط عبدالصمد، في آذار (مارس) 2008 أصدر الشاعر محمد الماغوط ديوانه الأخير: «شرق عدن غرب الله»، خصّ جزءاً منه لكتابة قصائد تتغزل بصوت محمود خليل الحصري، ومنحه مساحة من ديوانه وصفاً وحنيناً. في «سيرة حياتي» لعبدالرحمن بدوي وحينما ذهب إلى إيران وأطال المكوث فيها تسلل صوت عبدالباسط من أحد المساجد فكتب: «آهٍ كم كان لتلاوته العذبة من وقعٍ عميق في أرجاء نفسي، وعلى نحوٍ لم أعرفه من قبل في أيّ بلادٍ أخرى هاجرتُ إليها! إسلاميةً كانت أو غير إسلامية». من أوائل الأصوات التي سمعتُ القرآن من خلالها، صوت الشيخ: صالح المقيطيب، صاحب الصوت العذب، الذي يؤم مسجد المقيطيب في حي البشر ببريدة، والصوت الآخر صوت الشيخ: عبدالعزيز العيدان. صالح المقيطيب سمعناه طفولةً وشباباً، فهو يؤم المسجد منذ أكثر من 20 عاماً، وكان يؤم مسجداً في داخل مدينة بريدة من قبل، صوته مزيج من ذاكرة تراب بريدة وصحراء نجد، ويمتاز بصوت رخيم بمسحة حزن تعطي للحظة الإنصات قيمةً وجلالاً. انتشرت قبل عام قراءته الجميلة لسورة «المزّمل» لكنها نسبت خطأً إلى أمير منطقة الرياض سلمان بن عبدالعزيز، إذ وضعت في «اليوتيوب» على أنها قراءة له، بينما هي قراءة جميلة من قراءات الشيخ المقيطيب. بعض الأصوات تذهب بك بعيداً، تأتيك بتاريخ كامل بلحظات عناق الأجداد والجدات، أيام الركض والعبث والطفولة. كما يختزن صوت المقيطيب تاريخ مدينة كاملة، تستمع من خلال صوته إلى تاريخ معاناة مدينة مع الجوع، والمرض، يبثّ صوته جدل مكانٍ مع الحياة مع العيش، مكافحة أجيالٍ مع الصحراء والمرض والكفاح من أجل لقمة العيش. إنه صوت عذب يحتفظ بين نغماته بتاريخ مدينة، امتاز الشيخ بهدوئه وسمته، وحينما كان الشبان يتهافتون حماسةً واندفاعاً بكلماتٍ ذات طابع سياسي في المساجد والجوامع، كان يحصّن المسجد من ممارساتهم تلك، في فترات الاستراحة في صلاة التهجد كان يقرأ بلحن شجي من كتاب «عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان» من تأليف الشيخ: إبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن. كلٌ منا في ذاكرته قصص مدنٍ لم تدوّن بعد، ارتبط تاريخ المجتمع بالمساجد والدكاكين، وهو تاريخ بات مطموراً بفعل هدم المساجد وقمع تاريخ المدن وطمس معالم الدكاكين، أظنّ أن قناة الجزيرة «الوثائقية» أبدعت في استعادة «أصوات من السماء» لنقرأ أنفسنا وذواتنا من خلال تلك الأصوات العذبة والرخيمة. [email protected]