((الحلقة الحادية عشر)) \" انتفاضة المقهى\" في صبيحة يوم مشرق من أيام 1376ه 1955م . بدأ كل شيء وكأنه عادي . انطلق الناس إلى أعمالهم كعادتهم في الأيام السابقة الرتيبة .اكتملت صفوف الطلبة في مدارسهم . وبدأ اليوم الدراسي كالعادة . المتقاعدون عن العمل من كبار السن جروا أجسادهم إلى عتبات الدكاكين أو نواحي الطرقات بتثاقل ليبدءوا صباحهم بقصة جديدة أو خبر يقطع عليهم ساعاتهم الطويلة . توافد المزارعون إلى البلدة حاملين على ظهور حميرهم البرسيم الذي نشر رائحته العبقة مع نسيم الصباح . بدأ يسير كل شيء بسلاسة كالعادة , حتى شمس الصباح الصحراوية تمددت بأشعة عسلية وهي تدغدغ الجسد بحرارتها الحنونة . أصوات السماسرة بدأت ترتفع وتنتشر في ربوع بريدة مع نسيم الصباح . بدأ المعوقون عقلياً يجوبون أطراف المدينة بحثاً عن خبر جديد يزفونه للناس مقابل أي شيئاً يضعونه في أفواههم الجائعة . فجأة توترت الأجواء بلا مقدمات !!! صار الناس يتراكضون بسرعة , منهم من أتجه إلى الجردة لمشاهدة الحدث من بُعد وبعضهم جذب نفسه إلى داره وأغلق عليه الباب جيداً . \"لا حول ولا قوة إلا بالله \" دعوة يرددها الناس وهم يركضون . وشوشات وكلام منخفض لا يكاد يسمع يقوله أولئك الذين تحلقوا على شكل جماعات صغيرة في الأسواق والطرقات وهم متحمسين لطلب مزيدِ من المعلومات والتوضيح . استمر الحدث ساعة تقريبا مجهول الهوية . ولم يتمكن الناس من إدراك مفهوم واضح لما يجري . في قلب الحدث تجمعات شبابيه تردد شعارات غاضبة غير مفهومة للناس في الطريق الضيق الذي ينفذ من شارع الخبيب إلى الجردة والذي يسميه الناس أخيراً\" طريق الباخرة \" غص بالشبان البالغين الغاضبين . أحد الكبار الذي تشابهت عليه الأمور بدأ خائفاً من عودة الأيام الأولى قبل التوحيد قال \"-((قايلين لهم لا تستعجلون بهدم السور )) ثم تبعه من لديهم هواجس أمنية فشكوا بالقبائل المجاورة بأنهم نقضوا العهد والعقد وغاروا على البلدة . واحدة من العجائز التي قطعت سََمرَها الصباحي مع صويحباتها وعادت إلى بيتها مسرعةً وهي تسأل جارها قائلة :\" هم بدءوا ينهبون الديرة ياحمود\" . معتقدةً بأنها مازالت تغري الفاتحين . واحداً فقط من الكبار أقترب من تفسير الموقف بسبب تجاربه القديمة وتنقلاته على زمن عقيل من بريدة إلى مصر قال \" هذولا الجذعان بيعملوا زي قذعان مصر على زمن الخديوي عباس\" ولكن الناس لم يدركوا ما يقول ولا يعرفون ماذا تعني مظاهرات .وأخيراً أقترب الناس من تفسير الحدث عندما تفوه أحدهم ببعض الكلمات قائلاً :-\" كل البلاء جانا من هالمقهى ألي تبيع البربورة \" . لأن الناس المحافظين وهيئة الأمر بالمعروف سبق وأن أغلقوا مقهى فُتح لأول مرة في هذا الطريق يتناول فيه الشباب الشاي والشيشة \" البربورة \" كما كان يسميها الناس في ذلك الوقت يجتمعون فيه بعد صلاة العشاء . أما نحن الصغار فلم نستطع أن نفهم لماذا هذه الوشوشات وهذا الركض غير المبرر ؟ا ولما عجزنا أن نفهم شيئاً انخرطنا في لهونا ولعبنا وشقاوتنا المعهودة وكأن الحدث لا يعنينا و سرعان مادخل الحدث في عالم النسيان بالنسبة لنا يا أطفال ما دون المدرسة . وهذه هي القصة أسردها كما يلي . حدث في هذا اليوم تجمعات شبابية أمام مقهاهم الذي أُغلق , نصفهم من طلبة المدارس الكبار والنصف الآخر إما من الموظفين الشباب أو عمال النفط العائدين من المنطقة الشرقية والذين عملوا في شركة أرامكوا الأمريكية السعودية لكنهم اختلطوا هناك مع فئات أخرى من العمالة القادمين من اليمن وجيزان وعُمان وبعض العمال العرب الآخرين وبسبب احتكاكهم مع هذه الفئات تعلموا شرب الشاي \"والبربوره\" الشيشه, ولبس الغترة البيضاء. ولهذا قرروا فتح مقهاً لهم لجذب بقية الشباب والسمر حتى ساعة متأخرة من الليل ولكن الساعة العاشرة ليلاً لا يصح تجاوزها بالنسبة لعُرف البلدة خوفاً من عدم الاستيقاظ لصلاة الفجر وبهذا الحجة قامت هيئة الأمر بالمعروف بإغلاق المقهى نهائياً . وبهذه الخطوة التي أقدمت عليها الهيئة أصبحت \" القشة \" التي قصمت ظهر البعير , وحدث هذا الانفجار من هؤلاء الشبان البالغين والذين يتضجرون كثيراً من سلطة الهيئة في ذلك الوقت , ووجدوا هذه المناسبة فرصة لطرح مطالبهم التي كانت في ذلك الوقت قمة المطالب الشبابية البريداوية . ولكن هذه ليست بمستغربه إذا أدركنا جيداً أنها أول انتفاضة شبابية تقوم في بريدة بل بمنطقة نجد كلها . ولذلك تخالفت الأمور على الناس ولم يستطع أحداً تحليلها , ماعدا ذلك \"العقيلي\" الذي اقترب من الموقع وشاهد مايشبه ذلك في مصر . أما بقية الناس فإنهم لا يستطيعون تحليل الموقف , ولذلك رجعوا بذكرياتهم القديمة زمن النهب والسلب وعبروا عن هواجسهم الأمنية , كحالة تلك العجوز التي عركها الزمن المنصرم . رفع الزعيم أول شعاراته بصوت جهوري اهتز له المكان وردد معه الشبان هذه الأصوات الرفيعة المجلجلة حتى أدخلت الرعب على المتفرجين هناك ,و خافوا من المجهول , كانت مطالبهم واضحة ومسموعة وتعتبر من أعظم المطالب التي يتفوه بها بصوت مرتفع في ذلك الزمن , ولكنها تعتبر سخيفة جداً لأجيال هذا الزمن المترهل وكانت تلك المطالب:- 1-استمرار المقهى مفتوحاً يمارس عمله بلا إغلاق . 2-السماح لهم بركوب ا\"السيكل \" والتجول به بحرية تامة. 3- السماح لهم بلبس الغترة البيضاء وعدم نزعها من على رؤوسهم من قبل هيئة الأمر بالمعروف. 4- مساواتهم بشباب الوطن بالعدل والمساواة. كل هذه المطالب العظيمة رددوها بصوت عالي أمام رجال الهيئة \"النواب\" وكان هؤلاء الآخرين ينظمون هجمة مباغتة لهؤلاء الشباب الذين تجرؤا وعبروا عن مطالبهم بهذه الطريقة العاهرة , التي لا يقرها مجتمعهم ولا تعاليم الدين !!!! وفعلاً حصل الهجوم المباغت وعلى حين غرة من الشبان , ولكن الشبان صدوا الهجوم بهجوم مماثل أنهزم فيها رجال الهيئة , ثم انسحبوا إلى قواعدهم سالمين وهم يحملون جرحاهم على أكتافهم بعدما أصيبوا بكدمات عميقة . أعاد الشباب ترديد مطالبهم والزعيم بالوسط ,وكل لحظة يبتكر شعارات جديدة ,ويصرخ بصوت عال والجميع يرددون خلفه , استمروا ساعة ً أو تزيد قليلاً وهم على هذا الحال , وما علموا إلا بهجمة ارتدادية قام بها \"النواب\" . ولكن بعد تزايد الشباب وتكاثرهم بشكل مخيف , بعضهم من ترك عمله وجاء للمساندة وبعضهم تسرب من مدرسته , لهذا ردت هذه الهجمة على أعقابها , وبهذا كسب الشباب البالغين الجولة الأولى ولكن ؟؟ ماذا حدث بعد هذا ؟؟ مازالت القضية قضية احتجاج وعرض مطالب , هذا في الساعتين الأولى من الصباح ولكن بعد دخول ثمانية عشر شاباً ملثمين إلى الميدان تغير مجرى الاحتجاج وتحولت إلى مسيرة , وصار الزعيم يتلقى الأوامر والشفرات من هؤلاء الفتية . اخترقت المسيرة أرض الجردة متجهةً إلى مدرسة الفيصلية الابتدائية الوحيدة ببريدة اذا لم تخني الذاكرة . واقتحموا المدرسة وأخرجوا الطلبة منها وأمروهم بالانضمام إلى المسيرة. بعض الطلبة أذعن للأوامر والبعض هرب إلى بيته . ويمكن لبعضكم أن يستغرب أن طلبة صغار ويدرسون في المرحلة الابتدائية يؤمرون بذلك ولكن يمكن أن يزول الالتباس إذا أدركنا أن السنوات العمرية لدخول المدرسة غير محدد . فكنا بالصف الأول ويدرس معنا بالفصل من بلغ العشرين عاماً وكذلك من بلغ السبع سنوات وبهذا يكون الفصل مختلط الفئات العمرية وذلك لحداثة التعليم النظامي . سار المتظاهرون إلى المدرسة الثانوية وفعلوا مثل ما فعلوا بمدرسة الفيصلية . عندها تغيرت المسيرة وتحولت إلى \" تمرد وعصيان مدني ومحاولة انقلابية على الأمير \" عندما تغيرت الشعارات والنداءات وصارت تُعبر عن سقوط الأمير وسقوط هيئة الأمر بالمعروف أيضاً والمطالبة بحكم \"الزعيم\" ولم تكتفي الأمور بهذا بل سارت وحاصرت قصر الأمارة الذي هو الآن الأمارة القديمة ومبنى الشرطة الجنوبية والدفاع المدني عندما كانت هذه المنطقة محاطةً بسور من الطين ويسكن الأمير داخلها , وأصبح محاصراً داخل القصر وكأنهم نجحوا وفُتحت \"قرطاجة \" والفارس \"أخيل\" ممتطياً أكتاف \" الأسكندر المقدوني \" وسجلوا في هذه المعركة \" ألياذة جديدة \"يرسمها لكم بالصوت والصورة \"فقيركم بالله \" . وماذا بعد ...؟ استمروا بمحاصرة القصر حتى آذان العصر , بعدها بدأ الانسحاب شيئاً فشيئاً, وفي النهاية انتهى كل شيء وكأن شيئاً لم يحدث , وكأن البلدة تمر بأضغاث أحلام ومسرحية خيالية لا تعرفها الذاكرة الاجتماعية حتى الرمال والكثبان الرملية تخالفت عليها الأمور ولم تستطع هذه الكثبان الرملية أن تقبل رقماً غريباً عليها تدفنه تحتها وتحفظه في حافظة النسيان الذي يقع في جعبتها . لذلك بقي هذا الحدث ظاهراً للعيان ولم ينسى مثل غيره من الأحداث الأليمة والسعيدة التي دُفنت تحت الأرض لذلك أصبح رقماً نشاز تردده لأجيال جيلاً بعد جيل . وتطرح أسئلة لا تجد لها إجابة عن هذا الحدث وها أنا أسردهُ لكم وفي الحلقة القادمة أطرح ملفاتها ونقرؤها معاً قراءة تحليلية هادئة محاولاً إزالة بعض المفاهيم الخيالية التي صاحبت هذا الحدث ونُغلق ملفاتها إلى الأبد ونقنع الكثبان بقبولها ودفنها مع أخواتها . ولكن هل اكتملت القصة ..؟ لا لم تكتمل ..!!! انفجرت أسارير الأمير , وبدأ يتخذ القرارات الارتجالية وبلا تفكير أو مشورة من أحد . بسرعة أرسل إلى الرياض برقية عاجلة هذا نصها أو معناها :- ((النجدة .......... إن أهل بريدة ثاروا علينا و فسخوا العقد بيننا وبينهم وأعلنوا الخروج على ولي الأمر...!!!)) وصلت هذه البرقية إلى الملك سعود رحمه الله وصار بين مصدق ومكذب وخاصةً أن هذا البلد الذي يعتبر البنية الأساسية للكيان السعودي والذي يعتبر في الأيام الخوالي بيت الملك عبد العزيز رحمه الله والذي كان المغفور له يأتي إليه وكأنه واحد من أهلها يقرع باب أي بيت فيها ويقول كلمته المشهورة فقط \" أنا عبد العزيز \" ويُفتح الباب بكل ترحيب وكأنه أحد أبنائه العائدين من سفرة طويلة . لا .. لا .. لم يصدق الملك سعود \"رحمه الله \" هذا وفضل التريث والتأكد من الأمر جيداً ولو أنه غير مقتنع تماماًً من الحدث . فأرسل أحد رجاله الحُكماء مع فرقة صغيرة من المحاربين القدامى على طائرة مجولقة وأمرهم بالنزول بعيداً عن بريدة ثم الزحف ليلاً إلى أطراف المدينة واستطلاع الحدث جيداً .\"قيل لي من أحد الرواة الذين يكبروننا سناً \" :-نزلت الطائرة في القاع المتسع على طريق الرياض القديم قبل الصعود إلى رمال الشماسية وحدث هذا في جُنح الظلام قبل أن يتبين الصباح زحفت الفرقة \" المجولقة \" إلى أطراف المدينة ثم تمددت في طرقاتها فوجدتها هادئة تغط في نوم عميق , وفي الصباح كانت الأمور عادية وكأن شيئاً لم يحدث فانسحبت الفرقة إلى قواعدها . شارع الخبيب (الملك عبد العزيز حاليا) شهد مسيرة أول احتجاج علني ببريدة كان بإمكان الأمير أن يُعالج الأمور بنفسه وبلا تصعيد وما هي إلا غضبة شبان بالغين يطالبون بأشياء بسيطة . وكان الأفضل ألا تتعدى الأمور أسوار البلدة وتصبح فيما بعد في ذاكرة النسيان , ولكن حصل ما حصل , وأن الحدث تحول إلى ذاكرة وطنية ترددها المجالس حتى الآن ويُضاف إليها من المبالغات \"ما لله لك به عليم \". من الممكن أن تموت لو كان الأمير اتخذ القرار المناسب والهادئ . ولكن بسببها فقد منصبه فوراً عقاباً له ,وحكومتنا دائماً تسعى إلى التهدئة ودائما ما تقدم الجزرة ثم الجزرة ثم الجزرة أولاً وتتخذ في النهاية العقاب الحكيم الهادئ . ثم ماذا بعد ؟ في صباح اليوم الثاني قامت مجموعة مكونة من رجال الأمير ورجال هيئة الأمر بالمعروف باعتقالات واسعة النطاق بأرجاء المدينة شملت كل الشبان الذين شاركوا و الثمانية عشر ملثم و الزعيم\" أخيل\" ونقلوا مجولقين\" إلى الرياض على الطائرة نفسها التي جلبت المحاربين القدامى . في الرياض حقق معهم وعندما تأكدت الجهات المختصة أنهم لا يضمرون شيئاً غير المطالب الصغيرة التي طلبوها وأن مستوى تفكيرهم لا يتعدى هذه المطالب وأن ليس لها أهداف سياسية , وأن ثقافتهم لا تتعدى مجلة\" قافلة الزيت \" أو سماع الراديو , وأن المثقفين الحقيقيين الذين يحملون توجهات ثقافية أخرى لم يشاركوا في هذه الانتفاضة لأن هؤلاء منهمكون في أعمالهم التعليمية وهمومهم الثقافية التي هي أكبر من هذه المطالب وهي عملية التحديث التي رعاها الملك عبد العزيز ومن بعده الملك سعود وعندما تفهمت الحكومة ذلك وأن الأمر لا يتعداها , وأن البلاغ الذي وصلها مبالغاً فيه كثيراً . وصادف ذلك وجود جماعة من بريدة في الرياض لمقابلة الملك والشفاعة لهم صعب عليه( رحمه الله) وأرسلهم إلى بريدة ,وطلب محاكمتهم محلياً ,وأخيراً حُكم عليهم بالجلد وأفرج عنهم, ولكن ليس لأنهم تظاهروا وأعلنوا مطالبهم ولكن بسبب اقتحامهم المدارس وقصر الإمارة . دمتم بخير موسى النقيدان