تتشابك الأيدي في صبيحة يوم مشرق جميل ، الزحام شديد ، والأصوات تتعالى مغردةً ومبتهلة ، تنادي من في السماء ، والشوق يحدوها ، والأمل يدفعها إلى الأمام وتناسي ما تقاسيه من الإرهاق والآلام .السفر شاق ، والمسافات التي قطعت طويلة ، هنا تحط الرحال ، وهنا تسكب العبرات ، وهنا تذوب الفوارق ، لا صغير هنا ، ولا كبير هناك . كم على كواهلنا من الذنوب .؟ وكم أخفينا وأسررنا من الهفوات والعيوب ، نرفل في ثوب النعيم ونغفل كثيرًا ، وكرم ربنا يجعلنا نطمع كثيرًا بعفوه ومغفرته . لهيب الشمس يحرق وجهه الأسمر، قد تجاوز الثلاثين من العمر، يسير على قدميه وسط الجموع الهائلة كالسيل المنهمر المنحدر من جبل شاهق ، الجموع إلى عرفات متجهة ، هذا الأسمر لا يبالي بالزحام أو التعب ، يقف ليلتقط أنفاسه ويسقي من كان على ظهره قطراتٍ من الماء البارد الذي دفعه إليه حاج آخر مرَّ بجواره ، والده الطاعن في السن قدم به من بلاد بعيدة ، سمرته توحي أنه من بلاد الهند ، ما الذي جاء به إلى هنا .؟ ماذا يريد .؟ أكمل مسيرته وغاب وسط الجموع، ولكن سبحان من يعلم خلجات قلبه وما توسوس به نفسه. وسط الشارع يقف ، زحام ، سيارات ، عوادم وأصوات ، كلٌ يريد أن يكون الطريق له ، يغيب الإيثار أحيانًا ، وتتجلى الصور الرائعة في موقفه ، ينسى ذاته ، ولا يفطن إلا لمن يحتاجه ، يوقف السيارات ، ويمسك بيد ذلك العجوز ليمر إلى الطرف الآخر، يعود لمكانه ، لتتكرر الصورة عشرات المرات ، دون كللٍ أو ملل ، هو أحد الجنود الذين خلطوا تأدية العمل الواجب بالعبادة والاحتساب ، فأثمر عطاءً لا ينضب ، وأجرًا في ميزان حسناته يكتب . التفّوا حول قدر كبير تنبعث منه روائح طيبة من طعام لذيذ تم إعداده وطهيه من أمهر الطهاة ، حملوه بين أيديهم ، اتجهوا به إلى ناصية الطريق الذي يزدحم بالحجاج المارين القادمين من عرفات ؛ وقد أخذ منهم الإرهاق جراء المشي الطويل كلَّ مأخذ ، بدؤوا يطعمونهم ويسقونهم ، فماهو حجم الفرح الذي سيشعر به هولاء بعد التعب والجوع .؟ وما هو الأجر المدخر لهولاء .؟ الجمرات ، يالروعة المكان ! خطوات وتكبير ، يحمل في يديه سبع حصيات ، يتقدم بخطى مطمئنة ، يقف بجوار الحوض ، يخفض رأسه ، يذرف الدموع ، خطوات إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهو يمسك بابنه وفلذة كبده ، يريد أن يذبحه استجابةً لأمر ربه ، وخطوات محمد -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ؛ وفي يديه الطاهرتين سبع حصيات ، ذكرياتٌ اختلجت في نفسه ، إذًا هو على الخطى يسير، الزحام من حوله شديد ، التكبير والتحميد له دوي ، كلٌ يحدوه الأمل بمحو ذنوبه وقبوله ، ما أجمل أن يجد الإنسان باب الأمل وقد فتح على مصاريعه ، والداعي له ملك الملوك الغني الرحيم سبحانه . *************** صورٌ متراكمة قد طُبعت عبر السنوات التي خلت ، وأحاديث تروى من خلال القوافل القادمة من هناك ، يطرب الكبار قبل الصغار لها حين يتناقلها السمّار في ليلة مقمرة ، عن تلك الخطوات في تلك البقاع ، والتي نتاجها «رجع كيوم ولدته أمه» ؛ إنه عرضٌ يفوق الدنيا بأسرها ، بشرط أن يقبل وهو راغب ، ويقتفي خطى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حينما قال : «خذوا عني مناسككم» . لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . عبد الله العياده