أحدث إصدار الأمر الملكي الأخير حول ( الفتوى ) دويا هائلا في الأوساط العلمية في داخل المجتمع السعودي ، وخارجه ، وكان مادة لحديث واسع لوسائل الإعلام ، وهذه محاولة لقراءة هادئة وسريعة لهذا القرار الكريم . واضح أن الأمر الملكي جاء ليعالج أمرين : الأمر الأول : 0000000000 قطع الطريق على صعود خطاب ديني متشدد أخذ المنحى الاحتسابي ، وطرح نفسه من خلال آليتين : الآلية الأولى : إصدار فتاوى متشددة كتكفير مبيح الاختلاط ، والدعوة إلى هدم المسجد الحرام ، وإعادة بنائه وغير ذلك. الآلية الثانية : القيام بالاحتساب على بعض القرارات الوزارية ، وبعض مظاهر المنكرات من وجهة نظرهم ، وذلك إما بإصدار البيانات الموقعة ، أو بقيام مجموعة من المحتسبين بزيارة لأحد الجهات الحكومية كما حصل في زيارة وزارة التربية لإنكار صدور قرار بتدريس النساء للصفوف الأولى في مدارس البنين . وهذا الخطاب – بلا شك - يمثل قلقا للسلطة السياسية ؛ إذ إنه يطرح نفسه بديلا عن مؤسساتها الشرعية القائمة ، ويزحزح الثقة بمشروعيتها الدينية في نظر قطاع من المتدينين المعجبين بأطروحات هذا الخطاب . الأمر الثاني : 000000000 إيقاف بعض الاجتهادات الفقهية التي بدأت تطرح ، وكانت مثيرة للرأي العام الديني المحلي الذي لم يعتد على الخلاف ، وتربى على قناعات دينية ببعض المسائل ترقت لديه إلى مرتبة الثوابت مما أحدث هستريا جماعية لدى قطاع عريض من المتدينين ، كفتوى إباحة اختلاط ، وفتوى إباحة الغناء ، وفتوى رضاع الكبير . ولاشك أنه من وجهة نظر سياسية محايدة تجاه القرار الملكي ؛ فإن من مهمات السلطة السياسية في أي بلد من بلدان العالم الاعتناء بأمرين : الأمر الأول : مراعاة الرأي العام في قناعاته وتقاليده وعاداته ، ومنع كل ما يثيره مما قد يتطور إلى ما لا يحمد من الناحية السياسية . الأمر الثاني : بالنسبة للدول الدينية – كما هي حالة السعودية – تكون لديها حساسية مفرطة من أية دعوة أو خطاب ينازعها شرعيتها الدينية ، ولهذا تلجأ لقطع الطريق على أي خطاب ينازعها تلك الشرعية . السؤال هل سيؤدي الأمر الملكي لعلاج هاتين القضيتين ، ولن يكون هناك أي آثار سلبية لذلك العلاج ؟ أعتقد أنه سيفي بالغرض المقصود من طرحه – في المدى المنظور - إذ سيكون كابحا لبعض الأطروحات الفقهية الجديدة ، وسيقطع الطريق على توسع الخطاب الاحتسابي الجديد ، لكن في المقابل قد ينتج عنه- على المدى البعيد - سلبيات كثيرة منها : أولا : 0000 تكريس التعصب الديني ، والمساهمة في زيادة التطرف ؛ وذلك لأن تربية الأجيال المتدينة على رأي فقهي واحد من مدرسة فقهية واحدة يجعل العقل الديني عقلا قطعيا غير قابل للتسامح مع المخالفين مهما كانت آرائهم وأطروحاتهم ، وإذا كان مجتمعنا اليوم يعاني من ظاهرة التطرف التي أنتجت ( العنف ) مع ما فيه من كثرة الأطروحات الفقهية المتعددة ؛ فكيف إذا أغلق باب الفتوى على غير فئة محددة تكاد تتفق في آرائها الدينية ونظرتها للواقع والتاريخ والأشخاص والأحداث ؟!! لاشك ولا ريب أن هذا سينتج تعصبا مخيفا ، وانغلاقا خطيرا في العقل الديني ، ومن المتفق عليه أن المجتمعات التي تعيش تعددية في الآراء والأطروحات الفكرية هي أكثر اعتدالا وتسامحا وأبعد من التطرف من المجتمعات المنغلقة ذات الأحادية في الآراء ثانيا: 0000 ضمور الإبداع الفقهي والتنافس العلمي ، والازدهار في المجال الديني ؛ إذ إن قصر الفتوى والمجال الدين على فئة معينة ذات راء متفق عليها بينهم ، ومنع كل من يختلف معهم في الرأي هذا يدفع البقية للتمحور حول تلك الآراء الدينية التي من خلالها يستطيع أن يطرح الفقيه نفسه في المجتمع ولا شك أن التعددية الفقهية في مجتمع ما دليل على حيويته ، وازدهار العلم فيه ، وكثرة الفقهاء ، وتنافسهم في العلم ، ولهذا وجدنا أرقى عصور الأمة الإسلامية وهي القرون الثلاثة الأولى هي أكثر فترات الأمة ازدهارا وتعددا في الأقوال والآراء الفقهية ؛ إذ يندر أن يوجد عالم من كبار علماء تلك القرون وليس له آراء واختيارات مخالفة لغيره ، ولهذا وجدنا في القرنين الأول والثاني أن كل عالم يكاد أن يكون له مذهب خاص كسفيان الثوري والأوزاعي ، وسفيان بن عيينة ، وأبي ثور ، ومالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، والليث بن سعد ، وغيرهم . بل اختلف علماء القرن الثاني والثالث في أصول الاستدلال كالقياس ، والاستحسان ، و الإجماع ، والمصلحة المرسلة ، وقول الصحابي ، وعمل أهل المدينة ، ونتج عن هذه الخلافات في طرق الاستدلال خلافات واسعة في الفروع الفقهية حتى قال ربيعة بن عبد الرحمن حينما عاد من العراق حينما سئل : كيف رأيت العراق و أهلها ؟ قال : (( رأيت قوما حلالنا حرامهم ، وحرامنا حلالهم )) ، و إنما أراد كثرة المسائل التي يختلفون بها عن أهل المدينة . وحينما بدأ الانحطاط الحضاري للأمة في القرن الرابع وما بعده ، ترسخت المذاهب وبدأ التعصب بين أهلها ، وأغلق باب الاجتهاد ، وبدأ الصراع بين المنتسبين إليها ، حتى طرحت فتاوى تمثل هذا التعصب مثل هل يصح الزواج من الحنفية أو لا ؟ الجواب على قولين لا داعي لذكرهما ، ووضعت في الجوامع أربعة محاريب لكل مذهب محراب ، كما صنع في الجامع الأموي في دمشق والمسد الحرام . ثالثا : 00000 إعطاء صورة قاتمة عن الواقع السعودي للأوساط الخارجية ، وتصويرها بأنها ضد حرية التعبير ، وضد حرية الفكر ، وتكريس الصورة المشوهة عن طرحنا الديني بأنه جامد ، و ضد الانفتاح ، وقبول الخلاف ، وهذا بلا شك ليس من مصلحة السعودية أن تكون صورتها بهذا السوء في الأوساط الثقافية الفاعلة في العالم العربي والإسلامي وغيرهما . رابعا : 000000 تطلع جمهرة كثيرة من السعوديين من المثقفين والمنفتحين دينيا ، ومن أصحاب المذاهب الفقهية الأخرى إلى الفتاوى الدينية للعلماء خارج البلد ، ومتابعة طرحهم من خلال الفضائيات ، وفقد الثقة في الطرح الفقهي المحلي ؛ لأنه سيكون بتصورهم غير معبر عنهم . خامسا : 0000000 صعود رموز الخطاب الاحتسابي ، لأن منعهم والتضييق عليهم سيساهم في تصويرهم ضحية للقمع والمنع ، وسيساهم في التفات الجمهور المتدين حولهم ، وكل هذا سيساهم بلا شك في سوداوية النظرة إلى شرعية الدولة لدى قطاع من المتدينين . وخير وسيلة لمعالجة ظاهرة الاحتساب العشوائية السماح لها بالعمل ، مع السماح للإعلام بنقدها ، وتسليط الأضواء عليها . خاتمة 0000 أتفاءل كثيرا بأن الأمر الملكي إنما هو يخص فك الاشتباك بين الإفتاء في الأمر الخاص ، والإفتاء في الأمر العام ؛ وهذا بلا شك مهم جدا ، ويحتاج للتنظيم وذلك بأن يكون الإفتاء في الشأن العام الذي هو من مهمات الدولة كقضايا الحرب ، وإقامة العلاقات الدبلوماسية ، ونحو هذا من مهمات الجهات المخولة بالإفتاء ؛ لأنه أمرها متعد لعموم الناس ، ولا يصح أن تترك لآحاد الفقهاء ، وأما أمور الناس الخاصة القاصرة على أفرادهم كالعبادات ، وأمور العادات ، والأعراف ، والترفيه من غناء وطرب ونحو ذلك فهو أمر متروك للمسلم الفرد ؛ فهو من يقرر المفتي الذي تطمئن له نفسه ، وهو من يقرر أي مذهب يختار ، وليس لأحد أن يلزم مسلما بالرجوع لعالم بعينه ليلتزم بقوله وفتياه . د سليمان الضحيان كاتب وأكاديمي سعودي موقع الكاتب على الفيس بوك http://www.facebook.com/profile.php?id=100001289111239&v=wall&story_fbid=145951932089380#!/profile.php?id=100001289111239&v=wall