هذا هو التاريخ أمامنا ، ولا أكرم منه في إعطاء المعلومات والأحداث التي مضت, ولم يُذكر يوماً ما أنه أحجم أو حجب عنا أي شيء . كل الحضارات القديمة التي مرت يفرشها أمامنا ، ويتركنا نعيش معها وكأننا حاضرون فيها ، لا بل وكأننا ندير بعضاً من أحداثها . حكايات \"الغوغاء\" أيضاً ساهمت في صنع التاريخ . بنت دولاً وأسست حكومات واشتركت بقوة في صنع الأحداث والمواقف ، وهي من هدم تلك الدول والحكومات ، عندما تستخدمها رموزها للوصول إلى أهدافها ، وهي من \"سحلت\" تلك الرموز عندما اكتشفت نواياها ، واستيقظت يوماً لتشاهد أن المآسي التي هربت عنها عادت إليها بقوة ، وبشراسة أشد من ما مضى . هذه مطويات \"أوروبا العصور الوسطى\" أو أوروبا المسيحية أمامي ، تهمس بأذني عن تلك الأحداث الدامية التي وقعت هناك ، ولم تسلم منها البلدان الإسلامية ، دماءً سُفكت وأرواحاً أُزهقت ، وحضارات دُفنت غيلةً وعدواناً . وهذا كله حدث عندما انحرفت أوربا عن دينها ، وتحولت عبادة الله وحده إلى عبادة الرموز (من البابوات – والكرادلة – والكهنة) وبالغت الغوغاء في تقديس رموزها ، حتى وصلت الأمور إلى الحد الذي جعلت البابوات يقيمون مقام الله في أرضه، ولم تقف الأمور عند هذا الحد ، بل صار البابوات يمنحون الغوغاء \"صكوك الغفران\" الشهيرة . وهي صكوك تحمل توصية من البابا إلى الله في دخول الجنة ، ولا يمكن لأي أحدٍ من الناس أن يصل الجنة إلا بهذا الصك ، بعد ما دفعت الغوغاء الغالي والنفيس من حياتها وكدحها للبابا للحصول على هذا الصك . وكل هذا يحدث بدعم الغوغاء وقوتها ، وهتافاتها المميتة . واستطاع البابوات تكوين جيش كبير من هؤلاء الغوغاء وتحالفت مع الأباطرة ، وخرجت تلك الجموع والحشود ، واندفعت تسفك الدماء ، وتنهب الأموال وتقتل الشعوب باسم الجهاد في سبيل البابا وطمعاً في الحصول على صكٍ يفسح لها الطريق إلى الجنة . ولم تكتف البابوات بهذا النهب الكبير ، ولم تروى عطشها من هذه الدماء التي جرت كالأنهار ، وإنما تعدتها إلى الشعوب المجاورة . وأنشأت من الغوغاء التي صارت تلهث وراء البابوات كمخمورين ، وتنفذ أوامرهم . أقول: لم تكتف بهذا ، بل أنشأت الجيوش الصليبية التي غزت بلادنا بحجة نشر الدين المسيحي واجتاحت فلسطين وقتلت من سكان القدس حوالي سبعين ألفاً , ونهبت كل ما يقع تحت يدها من الثروات الهائلة ، التي ذهبت إلى الكنيسة في روما . ولم يكتفي رجال الدين والكنيسة في ذلك بل استخدمت الغوغاء وسخرتهم بالعمل الشاق في ضياعها وإقطاعياتها الزراعية الضخمة ، حتى أصبح البابا الواحد يملك جيوشاً غفيرة من المزارعين الفقراء يستخدمهم في زراعة الأرض بلا مقابل , وصارت الغوغاء تكدح في تلك الضياع وهي راضية عن نفسها لأنها أخيراً سوف تحصل على صكاً من صكوك الغفران الذي سيؤدي إلى الجنة . ووصلت الأمور أخيراً برموز الدين وباباواتها إلى إقامة \"محاكم التفتيش\" المشهورة,تحاكم المعارضين لها ، وأصحاب الديانات والمذاهب المسيحية الأخرى ، حتى المثقفين والمفكرين والفلاسفة \"والجماعات الرشدية\" وهي الجماعات المسيحية التي تدرس فلسفة ((ابن رشد)) . ووصلت هذه المحاكم إلى أسبانيا حيث بدأت بمحاكمة من تبقى من المسلمين هناك وإعدامهم. ولكن للصبر احدود !!! وتبين أن لهذه الغوغاء أيضاً عقولاً مثل الناس . وأدركوا أخيراً بعد المآسي التي ذاقوها وهم يجرون جراً للعمل بهذه الحقول بلا مقابل ، ويزج بهم بهذه الحروب الدينية بلا معنى أو هدف وإنما إرضاءً لرموزها ، وإشباعاً لرغباتهم . وأدركوا أخيراً أنهم انجروا وراء عواطفهم الجياشة ، التي تدعوهم إلى الجنة . وأنهم ضحوا بأنفسهم بلا مقابل . فبدأت حركة الإصلاح الشهيرة . التي نهض بها مثقفو أوروبا وفلاسفتها ومفكروها واستمرت قروناً كثيرة . بذل بها أولئك المثقفون جهودهم وأحياناً حياتهم ، وشرعوا في تثقيف الغوغاء وإرشادهم إلى أن العبادة لله ، وليست للبابا أو لأي رمز آخر . وما رجال الدين إلا أُناساً مثل بقية الناس ، لا يختلفون عنهم . وأن صكوك الغفران ما هي إلا مهزلة وخدعة من رجال الدين . وكانت فرنسا أشد بلاد أوربا لهيباً وأشدها اضطراباً فكرياً بين رجال الدين الذين شدوا قبضتهم عليها بالتحالف مع الإمبراطور ، وبين المثقفين . وقد خاض المفكر والفيلسوف العظيم \"روسو\" وكذلك \"فولتير\" وغيرهم حرباً ضروساً مع هؤلاء الرموز الذين أفسدوا في فرنسا باسم الدين . وصاروا يوجهون خطاباتهم الملتهبة ، وكتبهم ومؤلفاتهم ناحية الغوغاء لعلهم يعقلون ، وينفضون عن رموزهم الذين نصبوا أنفسهم بدل الله . ولكن المعركة احتدمت بينهم وطارت رؤوس كثيرة من هؤلاء المثقفين . وأخيراً صحت الغوغاء !! وأدركت أنها تدعم الطريق الخاطئ , واشتركت مع المناضلين الفرنسيين الأحرار , وكونوا جيشاً كبيراً اجتاحوا به باريس . وأخيراً قامت الثورة !! قامت على رجال الدين والإمبراطور والنظام السياسي الحاكم برمته . وسحلت هذه الغوغاء الإمبراطور ورموزها القديمة في الشوارع . وقامت الجمهورية الفرنسية الجديدة واتخذت النظام العلماني بديلاً لها ، نكاية بالدين وأهله . وهكذا نشاهد فرنسا الآن حساسةً تجاه الدين ، ومازالت ردة الفعل تشعر بها ، وهذا ما نشاهده عندما نراهم يغضبون من أي مظهر ديني يشاهدونه ، خوفاً من عودته مرةً أخرى , وأصبح البابا ورجاله لا يملكون إلا قطعةً صغيرةً من روما وهي حي صغير تسمى \"الفاتيكان\" ، بعد ما كانوا يملكون أوربا جميعها , ولا تمتد أوامره ونواهيه إلا في نطاق هذا الحي فقط . وهذا مثال آخر نشاهد فصوله كل يوم , يحدث قريباً منا . إنها جمهورية إيران الإسلامية . والحكاية بدأت في عهد الإمبراطورية الشاهنشاهيه الإيرانية . قامت الثورة الإيرانية أصلاً على يد منظمة \"مجاهدي خلق\" وهي منظمةً \"لبيرالية\" , هي التي خططت ونفذت الانقلاب الشهير على الشاه \"محمد رضا بهلوي\" بعد التدهور الحاد الذي أصاب إيران في عهد هذا الإمبراطور . واستغلت \"مجاهدي خلق\" رجال الدين والآيات الذين طردهم الشاه إلى الخارج ، وأهم هؤلاء الآيات هو \"الخميني\" الذي لعب دوراً كبير في استغلال \"الغوغاء\" وتحريضهم دينياً على الإمبراطور . وذلك بإرسال الأشرطة \"والكاستات\" التي فيها مواعظ وخطب حماسية تدعوا الشارع إلى الانتفاضة . وعندما نجحت الثورة ، بعد كفاح مرير خاضته الغوغاء مع الحكومة ، قُتل الكثير منهم تحت المجنزرات وآليات الجيش . وأخيراً هرب الشاه !! في الوقت الذي نزل فيه \"الخميني\" على أرض المطار قادماً من فرنسا بلد الملجأ . وكانت الأشرطة والكاستات التي هُربت إلى إيران وهي تحوي خُطب الخميني قد فعلت الكثير في قلوب الغوغاء . وتحولت منظمة \"مجاهدي خلق\" إلى الدرجة الثانية أو الثالثة . وتحولت الآيات والملالي إلى رموزٍ للغوغاء , واستولوا على الحكم من يد مجاهدي خلق الليبرالية . وطردوا رئيسهم \"بني صدر\" الذي هرب إلى الخارج عندما استولى الخميني على إيران بدعم من هؤلاء الغوغاء , وقد رأى نفسه وكأنه وكيل الله على أرضه , وأصدر عدة قرارات خطيرة حددت مستقبل إيران وحددت أيضاً مسار المذهب \"الشيعي\" منها الفتوى الشهيرة \"بعصمة الإمام\" و \"ولاية الفقيه\" وكل هذا حدث بدعم حماسي ومستميت من قبل الغوغاء . وقد تحولت الغوغاء وانحرفت في دينها من عبادة الله إلى عبادة \"الخميني \"وكذلك بقية رموز الدين , وأدخلتهم هذه الرموز في مغامرات خطيرة ، وزجت بهم في المعارك الخاسرة مع العراق ومع الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد اضطهدوا مخالفيهم في الرأي واستمرت المشانق منصوبة في ساحات طهران لكل من ظهر منه مخالفةً لأولئك الرموز حتى دخلت إيران في صعوباتٍ اقتصادية وعسكرية وسياسية انتبهت لها الغوغاء أخيراً , عندما رأت نفسها في مأزقٍ اقتصادي وسياسي , وتدهور في جميع نواحي الحياة , وبدأت تعيد حساباتها . وها هي الغوغاء مرةً أخرى تنظم إلى صفوف حركات الإصلاح وتحاول التخلص من هذه الرموز الكريهة , التي كانت في يومٍ من الأيام تعبدها من دون الله . والمسلسلات تمر علينا كل يوم في نشرات الأخبار . لنصبح في يومٍ من الأيام ونحن نشاهد تلك الرموز تُسحل في وسط شوارع \"قم\" وطهران . -أما أنا فليس لي إلا رمزٍ واحد فقط هو \"سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم\" وليس لي إلا رب واحد هو الله سبحانه وتعالى . وليس لي إلا كتاب واحد هو \"القرآن الكريم\". وليس لي إلا مذهب واحد هو مذهب \"أهل السنة والجماعة\". أما بقية البشر فإنهم أُناس ، يصيبون ويخطئون . ونحن نقول للمصيب أصبت ، وللمخطيء أخطأت . ودمتم . موسى البراهيم النقيدان . تربوي متقاعد ومؤلف رواية \"الهدام\"