يفكر.. ينظر يمنة مرة ، ويطيل النظر يساراً ، في عنفوان شبابه .. وقف بجوار المحطة ليصب قليلاً من الوقود ، كي يساعد سيارته على الاستمرار في الدوران والسير عبر الشوارع والطرقات ؛ بحثاً عن هدف لا يدري ماهو. عنفوان... شباب ... فراغ ... خيال واسع ، منظر ما زال محفوراً في ذاكرته عن بطل ذلك الفيلم ، وكيف تحدى الصعاب ..... لعله يجرب ! العامل يقف بجواره ، يريد مبلغ الوقود ، ينظر إليه ، نفس قسمات ذلك العامل في ذلك المشهد ، تدثر الخيال بالواقع ، غاب عن الواقع ، الخيال صار واقعاً ، انطلق كالريح دون أن (يعبر) أحداً ، خرطوم (الطرمبة ) لا زال عالقا في سيارته ، تجاذب قوي بين سيارته و(الطرمبة) ، كل يجر الآخر، أخيراً تفوقت السيارة ، فاقتلعت ( الطرمبة ) عن مكانها ، وألقت بها على قارعة الطريق ، والوقود يتسرب منها بغزارة ، نظر إليها ، تبسم تبسم المنتصر، انطلق لا يلوي على شيء ، المهم أنه حقق ما بداخله من التحدي وإثبات البطولة ، نفس حركات ذلك البطل في الفيلم ، أحس بنشوة ، ولم يدرِ أن ذلك البطل كان يؤدي ذلك المشهد تمثيلاً وليس واقعاً ؛ لتصحيح مسار خاطئ في الحياة ، ولكن إذا غاب التفكير فلا تسأل بعد عن النتائج . شرارة لا ترى بالعين المجردة انطلقت من الآلة الحديدية المثبتة بخرطوم (الطرمبة) ، تفاعلت بلمحة بصر مع قطرات البنزين المتدفق ... ********* استل قلمه ... يفكر ... ينظر من النافذة أمامه ... الأفق البعيد يعطيه مساحة واسعة من الخيال ، تجعله يتخيل أنه على ظهر جواد جامح ينطلق به متخطياً الأسلاك الشائكة التي رسمها في خياله ، والتي كان يفكر بها كثيراً ؛ لأنها هي العائق الوحيد التي تمنعه من الرقي والتطور ومواكبة العالم المتحضر. كيف يبدأ بمهاجمة هذه الأسلاك .؟ كيف يتخطاها ..؟ كيف يعلن التحدي لها .؟ يجوب أفق الفكر ، يقلب ناظريه ، فجأة قفز في ذهنه ذلك البطل الذي قرأه في تلك الرواية ، وكيف صدع برأيه ، ليغير وجه المجتمع بعد رحلة طويلة من المعاناة والكتابة ، لينال حريته المسلوبة ، وهاهم اليوم ينعمون بها ، كل يمشي على شاكلته ، يقول ما يشاء ، يفعل ما يشاء ، يعتقد ما يشاء ، يمارس ما يشاء ، كل ذلك على قارعة الطريق ، إذاً هذا هو التحدي : أن أملك زمام أمر نفسي ، وأفعل ما يحلو لي ، بغض النظر عن الآخرين من حولي . انطلق الشاب بقوة دون أن ينظر لمن حوله ، بعدها ؛ حريق هائل اشتعل بكل أرجاء المحطة . ******* البناء متماسك متراص بقواعد وأسس متينة، تنظيم دقيق يفوق ما أنتجته عقول الغير، من أساليب يضرب بعضها بعضاً ، وقد نسجت هذه الخيوط لتكون على مقاس معين لا يصلح لكل الاستخدامات، إلا لهم فقط. هذه خلاصة ما يعتقده في داخله ، لكن الفرصة لم تتح له ليعبر عنها بكل وضوح وشفافية ، فالمساحات الهائلة عبر الصحف اليومية التي تمتلئ بالصور المنقولة عما أفرزه غيرنا ، ويسوق لها على أنها مثل رائع يحتذى ، ممنوعة عليه وأمثاله ، ليعبر عن نصحه ويوضح فكرته ، فالإقصاء ينتظره كلما فكر أن يعبر عما يجول بخاطره ، أما التهميش والأوصاف المعلبة الجاهزة فإنها تنتظره إن هو حاول أن يرفع صوته ، معبراً عن مدى انتمائه لهذا الموروث الثابت ، وأن الحلول التي قدمها هذا الموروث هي الحلول الكاملة التي تحل ما نعانيه من مشكلات أزلية . أفكار تختلط بخيال الشاب النقي ، كيف يساهم في عملية البناء لهذا الوطن ..؟ وهو يرى ويقرأ هذا الصراع الذي يتعمد فيه إقصاء أشخاص كان لهم دور بارز في إشاعة الخير والحب لكل الناس ، منطلقين من أسس متينة بناها المعلم الأول ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( متمثلين ) قوله - صلى الله عليه وسلم -: \" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه \". هذا يوجد حالة من الفزع الخفي المكبوت أو المسكوت عنه ، وهنا ممكن الخطر. فهذا المنهج الذي يغذي تيار الأحادية في التفكير وإلزام التبعية ، مع التهمة القديمة الفرعونية ، التي أطلقها على موسى -عليه الصلاة والسلام- : ( إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ) أو مقولة : أن لم تكن معي ... ؛ قد يفرز ردات فعل غير مسبوقة ، ومجهولة النتائج ، فمن الخطر أن تقدح شرارة بجوار قطرة بنزين دون أن نقدر مدى العواقب المترتبة على هذا الفعل ، وماهو الدمار الذي قد يخلفه ..؟ أو تميط اللثام عن مداد القلم وتكتب ما يجول بخاطرك بعيدا كل البعد عن الثوابت التي بها تماسك هذا البناء وقام طيلة السنوات الخوالي ، وبها كان لهذه الأمة موقع هام على خارطة الزمن ، ثم تنطلق بعيداً ؛ تظن أنك ستهرب من آثاره المدمرة كما فعل ذلك الشاب حينما أشعل ذلك الحريق بتلك المحطة . نتيجة ذلك التفكير حريق هائل كاد أن يكون كارثة ، وكارثة الفكر وحريق القيم أكبر وأفجع من حريق قد ينطفئ بعد اشتعاله بلحظات ..... عبدالله العياده